لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

محمد مهدي يكتب - الشيخ عبدالفتاح ضرغامي.. أثر "عايدة" لا يزول أبدًا

عبدالفتاح الضرغامي

محمد مهدي يكتب - الشيخ عبدالفتاح ضرغامي.. أثر "عايدة" لا يزول أبدًا

08:09 م الأحد 01 نوفمبر 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد مهدي:

يُرجي الاستماع لهذه المقطوعة الموسيقية من مسلسل "زيزينيا" أثناء القراءة، من تأليف طيب الذكر الموسيقار الكبير "عمار الشريعي".

(1)

لم يكن الشيخ "عبدالفتاح ضرغامي" المدرس الإلزامي البسيط، حافظ القرآن ومحفظه لأطفال أهل كرموز بالإسكندرية، يعلم أن يوما سيأتي عليه سيشعر فيه بتلك الرجفة السريعة في روحه، زلزال لثواني اعترى جسده لحظة رؤيته لـ "عايدة" وهي تخرج من "الأتومبيل" الخاص بها أمام لوكاندة سان ستيفانوا، غاص في شعرها الطويل الكستنائي المطلي بلون الشمس، حاجبيها الصغيرين الكثيفين، عيناها الزرقاوين كأنهما بحر لا نهاية له، شفتيها المكتنزتين الملونتين بلون الخمر، تلك الغواية مكتملة الأركان.

عاد "عبدالفتاح" ليلتها إلى منزله وقد مسه العشق، اشتعلت في جسده الحمى، خلع العمة والقفطان، نام على فرشته البسيطة، وصار يهزي "صنم للفتنة منتصب أهواه ولا أتعبده.. صاح والخمر جنى فمه سكران اللحظة معربده".

عايدة

(2)

كم ليلة مرت على الشيخ يعذبه الشوق؟ لم يتذكر، لكنه لم ينساها، لم تغادره قط كأنها سكنته، تلك الـ "عايدة" الأميرة المطلقة المرتبكة المحيرة الملولة التي تتلذذ بعشق الرجال لها، نفد صبره سريعا فانطلق ذات صباح إلى مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي، صلى بجوار المقام، بكى ودعى ربه أن يحميه من الفتنة، أن يبعد طيفها عن خياله، لكن دون جدوى.

يحكي لصديقه بِشر عامر عبدالظاهر عن الجِنية " مش قادر أمسح صورتها، السحر اللي بيشع حوليها زي الضي في ليلة 14، ساعتها العبد لله الضعيف صابه الطلسم اتسمر في مكانه زي مساخيط مدينة النحاس في ألف ليلة، تصور العزم اللي حصلي حط على جبيني شكلها.. حافظ لون عنيها، نقشة فستانها، نمرة الأتومبيل بتاعها 669 خصوصي مصر".

ضحك الصديق فصاحبة الأتومبيل أصابت قلوب لا تحصى من الرجال، من بينهم "بِشر" نفسه.

عبدالفتاح الضرغامي

(3)

في اللقاء الثاني، بعد أن دله "بِشر" على فيلتها في زيزينيا، تسمر الشيخ العاشق أمام محبوبته يهمس "تبارك الله فيما خلق" الرجفة تعود من جديد من حيث لا يدري، تظن هي أنه شحاذ، يعترض "أنا مش شحات.. أنا الذي نظرتي إليه نظرة أورثته ألف حسرة".

لم يفطن "عبدالفتاح" أنه يرمى نفسه دون أن يدري إلى التهلكة، تجاهل وجود حارس الفيلا وواحد ممن خَدم "الست هانم" يتطاير الشرر من أعينهم، القُرب منها يُفقده قدرته على استشعار الخطر، أحس به متأخرا وهو يُضرب ضربا مبرحا من أيدٍ لم يصلها نور الحب.

(4)

لأنه وحيد، بعد أن هربت زوجته بولديهما الصغيران إلى بلدتها ثم طُلقت منه، لم يجد "عبدالفتاح" سوى صديقه "بِشر" يلجأ إليه، يداوي جراح جسده وجراح روحه، وفي منزله لم يتحمل فسقط مغشيا عليه وهي يحكي ما كان، ظنوا أنه مات، عاملوه كأي متوفي، قاموا بتغسيله وتكفينه، بكوا عليه، وضعوا جسده النحيل في نعش صغير وتوجهوا إلى مقابر عامود السواري لدفنه، وقبل أن يغلقوا المدفن صرخ من داخل الكفن.. لم يمت.

عاد الشيخ من أعتاب رحلة الموت فصار وليا وصاحب طَريقة، تغير ردائه إلى رداء أبيض ووشاح أخضر طويل يكسو جسده، يأتيه الناس من كل فج، يتمسحون في جسده يطلبون بركته ودعائه، يطوفون به ومن حوله أرجاء الإسكندرية صارخين "مدد يا سيدنا الضرغامي مدد" غير أنه كان منشغلا في فترة التيه العظيم بها، بالدعاء لله بأن يفك أسره منها ويخلصه من التعلق بها.. مسكين "عبدالفتاح".

عبدالفتاح الضرغامي

(5)
تتعلق عيون الجميع بالولي، صاحب الكرمات، من يُزيل الغمة ويفر منه الكرب، كلماته سِر لا يعرفه أحد، مفتاح لكل الأبواب، قادرة على شفاء المرضى، وإعادة الحياة لرحم سيدة عاقر، هكذا صار حديث الناس عن "عبدالفتاح"، بينما عينيه هو تبحث في كل مكان عن "عايدة"، تلك الفتاة لا تغادره قط، طيفها لا يفارق خياله، معه دائما، حتى في أحلامه، يناجيها داخله وسط زحام مريديه، وبصوت مسموع في وحدته، الشوق لرؤيتها ينهش قلبه، يدغدغ مشاعره.

"ماذا حدث لك يا شيخ" يقولها لنفسه مرارا وتكرارا لكن دون إجابة، يطالبه صديقه بالتوقف عن السير في المحظور فيدافع عن جنونه "الحب مش خطيئة، الحب العفيف درجة من درجات التجلي والتفاني في الملكوت"يصمت لحظة ثم يبتسم ويُكمل "الإمام علي قال في نهج البلاغة من أحب فعف فهلك دون حبه فهو شهيد".

(6)

على بابه جاءت معذبته، ظهرت أمامه وسط محاولاته الدائمة لنسيانها، أطلت عليه بوجهها المليح الملائكي، ينتفض من مجلسه "ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"، تأتيه الحمى لكنه يتحامل على نفسه، يقترب منها ليتأكد أنه يراها بحق، يتوسل إليها "شوفتيني بقيت عامل إزاي؟ هزيل.. زي الشبح" تخافه، تبتعد، فيطلب أن تترك له تذكار قبل أن تغادر، تعطيه منديلها، يتنفس رائحتها "قل للمليحة في الخمار الأسود. ماذا فعلتِ بناسك متعبد".

ضاع "عبدالفتاح" في حُب "عايدة"، تعلق بين السماء والأرض ولم يصل لأي منهما، الفوارق كبيرة بينه وبين ابنة الأكابر، المال والجاه والجمال، هي أيضًا ابنة الجنون لن يستطيع معها صبرا، لو اقترب لاحترق من نار الغيرة.

عبدالفتاح الضرغامي

(7)

الهروب هو الحل الذي ارتكن إليه الشيخ الصوفي المفتون، فر من عالمه الذي صنعه أهل كرموز، ترك لهم الجَمل بما حَمل، غادر دون أن يقول عن وجهته، أو لعله لم يكن يدري لأي مكان يأخذه القدر، فقط كان بداخله حاجة ملحة للهرب، للوحدة، للهدوء، للتفكير في صمت، للابتعاد، آه لو يمكنه الذهاب إلى أبعد نقطه عنها وعنهم.

في النهاية وجد نفسه بين أهالي "زنانيري"، كفاحهم ضد الانجليز على أشده، حكاياتهم جديدة على روحه، تضحياتهم تصب في حُب الوطن وليس الأشخاص، غرق في عالمهم عن قصد عله ينسى، لكنه فشل.

سافر إلى فلسطين مع رفيقه الجديد "عزوز أبوشامة" للنضال ضد اليهود، واجه الموت مرات ومرات، لكنه عاد من جديد إلى الإسكندرية، كانت معشوقته قد أحبت "بِشر" وتزوجت من رجل آخر، لم ينتظر كثيرا واختفى فجأة، آوى إلى جبل بعيد عن الناس، يعصمه عن طيفها، لكنه في كل مساء كانت روحه تأخذه إلى زيزينيا "أمر على الديارِ ديار ليلى..أقبل ذا الجدار وذا الجدار، وما حب الديار شغفن قلبي..ولكن حب من سكن الديار".

عبدالفتاح الضرغامي

(8)

متى كان الابتعاد قادرا على طمس العشق يا "عبدالفتاح"، روحك بين نارين، نار القُرب، ونار الشوق في الغياب، جمر تتقلب عليه ولا فرار، عذاب لا ينتهي، داء لا خلاص منه، لا يستطيع سيدك إبراهيم الدسوقي، أو حياة الدروشة، أو الجهاد ضد الإنجليز واليهود أو الاعتكاف في جبل لا يعرف مكانه أحد في دفن الوصال الممتد بينك و"عايدة" سِت الحسن والجمال القادمة من عالم ألف ليلة وليلة، ولا يمكنك أيضًا أن تقترب أكثر، حتى لو طلب منك "بِشر" ذلك، سترتعد وترفض " ترضهالي يا بشر اتجوزها وأنت عارف إنها مبتحبش حد غيرك؟".

حتى لو همست لك هي "تتجوزني يا عبده؟"، ستفر من أمامها، وتُكمل سيرتك بها وبدونها في نفس الوقت، هي قدرك، ستعيشه على كل حال، بمتعته وألامه، مثلك مثل أهل الحب المساكين، لأن آثر "عايدة" لا يزول أبدًا.. مهما فعلت.

• شخصية "الشيخ عبدالفتاح ضرغامي" من مسلسل "زيزينيا" بطولة الفنان "أحمد بدير".

من تأليف: أسامة أنور عكاشة. إخراج: جمال عبدالحميد. عُرض الجزء الأول:1997. الجزء الثاني: 2000.

إعلان

إعلان

إعلان