إعلان

حازم دياب يكتب - "اللي فاضل مش كتير"

حازم دياب

حازم دياب يكتب - "اللي فاضل مش كتير"

09:23 م الأحد 26 أبريل 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - حازم دياب :

(1)

المكان: صالة بيت أيمن

كانت الطفولة تطغي علينا، قصار القامة، نقف على كرسي الحمام لنستطيع أن ندير بكرة التلفزيون للقناة السابعة لنشاهد موال "مولاي" الذي تذيعه القناة الصعيدية التي لا تمتلك جدولاً للبرامج، كنت أذهب لأيمن رغم عدم امتلاكه تلفاز، لأسباب لها علاقة بعدم قناعة أبيه بجدواه، ودهشة طفل لا يعرف كيف يعيش صديقه في الرابعة من العمر دون أن يشاهد التلفاز حتى ولو لمشاهدة رضا عبد العال، لكن أيمن لم يكن يحب المباريات، كنا فقط نلعب بالأتاري لعبة ماريو، أو نذهب بكرة بلاستيك في طرقة المنزل، لنلعب "صدة- ردة"، بدلا من منزلنا الضيق، الذي لا ألعب فيه سوى بكرة تنس خضراء نتقاذفها وأخي في غرفتنا ذات الإضاءة الصفراء الباهتة.

(2)

المكان: شاشة الـipad- الفايبر:
أيمن: إنت فينك مختفي.
أنا: ظروف الشغل. مطحون.
أيمن: عاوزين نتقابل.
أنا: إن شاء الله.

(3)

المكان: بني مزار- حارة سد

امتحانات الابتدائية على الأبواب، والدتي تسد كل خانات تضييع الوقت من حولي: تخبىء الجرائد، تمنع التلفزيون، تحظر الجلوس مع الزوار، توقف إمدادات شرائط الفيديو الجديدة، لا نعرف مكان كمبيوتر "صخر"، الأمهات لديه مقدرة سحرية على إخفاء الأشياء.

طلبت من أمي زيارة جدي المريض، ظنّت في ذلك حيلة للهرب من المذاكرة، لم تكن حيلة. تعللت بالبكاء، وبما أوتى الأطفال من لزوجة للتأثير على إصرار أمي دون جدوى. أذّن المغرب، ركضت للصلاة، لن تمنعني أمي عن الصلاة، في أعقاب عودتي قررت أن أزور منزل جدي القريب من الجامع.

دوت أصوات الصراخ والنواح من البيت الذي يسد الحارة الضيقة في شارع متفرّع من شارع مصطفى عبد الرازق ببني مزار. مات جدي، دون أن ألقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، دون أن أتلمس أرديته الصوف الخشنة، أو أتحصّل منه على ابتسامة تعلق بذهني كلما جال بخاطري.

(4)

المكان: بني مزار

مدينة الصعيد التي تقتل الروح وتقتات على الأمل، ككل مدن الصعيد، نشأنا في كنفها، قضيت مع أيمن سنوات الطفولة، عرفته صديقا قبل أن نتزامل في المدرسة باختلاف المراحل، باستثناء المرحلة الإعدادية، اختار الهندسة، للمنهج العملي الذي يغلب على عقله، لكن القدر جمعنا في فصل واحد حتى عندما اخترت العلمي علوم، لقلة الطلاب جمعونا في فصل واحد.

كنا نذهب لبيتنا الجديد المتسّع، نلعب "بلاي ستيشن"، لا نحب "اليابانية" في اللعب لكونها سهلة، نلعب "أندية" لا أعرف لماذا كنّا نطلق عليها ذلك الاسم، كانت الساعات تمضي دون أدنى شعور بالوقت.

في المدرسة أطلقنا على مدرّس اللغة العربية اسم "شيبوب" لشبهة الكبير من أخ عنترة بن شداد، كما رُسم في ملخص الأضواء، عرفت منذ حين أن هذا المدرس يحمل هذا اللقب حتى الآن. كنّا نعرف كيف نزجي الوقت ونضحك دون أن نظن أن هناك هم سنحمله في المستقبل، اسمه: المستقبل.

(5)

المكان: مطعم دار جدودنا- رمضان 2012

اجتمعت وأيمن، ورفيق دربنا الثالث أحمد في رمضان نبحث عن مطعم للإفطار، ولمّا كانت الأغلبية بالحجز المسبق، لم نجد إلا دار جدودنا مكاناً يحتوينا، كان الأكل سيئاً والحساب كبيراً (وضعنا لهم مناديل مستخدمة مع النقود كنوع من الاعتراض). كان الجديد في اجتماعنا نوعية الأحاديث التي طغت علينا، بدا أن العمر انتقل من هزل الطفولة إلى جد البحث عن مكان.

انتقلنا للقاهرة، بحثاً عن ذلك المستقبل. أيمن كمهندس كمبيوتر دخل الجيش، وأحمد كطبيب امتياز، وأنا كصحفي في جريدة الوطن وقتذاك. تكلّمنا عن الزواج: لماذا نتزوّج؟.. لأننا نحب أم لأننا نطمح في استقرار، أم بحثاً عن مستقبل أفضل من خلال زوجة تعين على ذلك، ضيق مساحة المطعم جعلت مجاور لنا يتدخل في الحديث، كدنا نقذفه بالمياه والعصير، لولا مغادرتنا للمكان بسرعة وضيق.

خطبت بعد ذلك اليوم بعام، وتزوجت بعده بعامين ونصف، وكانا: أيمن وأحمد خير عون لي في ذلك في المشورة وفي الحضور كلما احتجت لذلك.

(6)

المكان: شاشة الـipad- الفايبر
أيمن: إنت فينك مختفي.
أنا: ظروف الشغل. مطحون.
أيمن: عاوزين نتقابل.
أنا: إن شاء الله.
أيمن: أنا مسافر دبي الأسبوع الجاي، عشان أشتغل.
صمت

(7)

المكان: كوستا- جامعة الدول

لم يجد أيمن عملاً لائقاً لشهادته، حين دخل قسم الحاسبات بكلية الهندسة، أخبرته "آخرك حتفتح سايبر، وتسميه سايبر أيمن ابن أحلام كراوية". بحث أيمن بشكل مضني دون جدوى، لم يعتد أن يأخذ مصروفه من أبيه، لا يفكّر إلا في تحقيق ذاته، لذا جمّع من ماله الخاص، وسوف يسافر إلى دبي في غضون أسبوع بحثاً عن عمل. قصة قصيرة مكررة بشكل ممل، حدثت مع صديقين قريبين لي من قبل، لكن الحزن في كل مرة يصيبني، واسأل نفسي مجددا: إلى متى يظل الوطن يقتل في نفوس أبنائه الأمل، ويجعلهم يبحثون عن المستقبل بين أناس آخرين وأرض غريبة؟

عندما أخبرني بالسفر وأخبرته بعدم قدرتي على تصديق ذلك، أجابني "ما إحنا بقالنا قد ايه مش بنتقابل؟" طوال عامين مضيا لم ألتق بأيمن كثيراً لظروف عملي، وضيق وقته لخدمته العسكرية لكن بالنسبة لي أيمن موجوداً، في كل أزمة سأقع بها، أو رأى سأحتاج لمشورته، أو جلسة صفاء كالتي جمعتنا طوال عقدين سأهاتفه، سنجلس هذه الجلسة في مكاننا المفضل أقذفه بحبيبات السكر في وجهه أو أرميه بكرات الورق في مشروبه، أو أعرقل مشيته المتعجلة بقدمي.

يقولون إن هناك تناسباً طردياً بين الغياب عن العين والغياب عن القلب، ربما نسوا أن يضيفوا أن يكون ذلك الغياب اختياريا.

(8)

المكان: ديوان شعر ويسترن يونيون فرع الهرم: ديوان بالعامية المصرية
“يا ناس يا عبط يا عشمانين.. ف فرصه تانيه للقا..
بطلوا اوهام بقي.. وكفايه أحلام واسمعوا..
عيشوا بذمه و ودعوا.. كل حاجة بتعملوها..
وكل حد بتشوفوه..
وكل كلمه بتقولوها.. وكل لحن بتسمعوه..
عيشوا المشاهد... كل مشهد.. زي مايكون الأخير..
واشبعوا ساعة الوداع …. واحضنوا الحاجه بـضمير..
دا اللي فاضل مش كتير ….
اللي فاضل.. مش كتير”

إعلان

إعلان

إعلان