لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الآن.. عندي مشكلة مع عقوبة الإعدام

سلمى أنور

الآن.. عندي مشكلة مع عقوبة الإعدام

01:46 م الأحد 10 مايو 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- سلمى أنور *:

في عام 2009 نشرت مقالة طويلة عريضة هي إلى الدراسة أقرب دافعت فيها عن موقفي المستهجَن دائما وأبدا من عقوبة الإعدام .. موقف المدافع بطبيعة الحال! أو قل غير الرافض فلسفيا على الأقل.

مرت الأيام منذ ذلك الحين وأنا أتلقى بابتسامة هادئة هجوم أصدقائي من الحقوقيين والأكاديميين والمرهفين على موقفي هذا، الذي لطالما وصفت بسببه بنعوت من قبيل "يا همجية" و " يا متوحشة" وخلافه! 

لكن موقفي الفلسفي بقي متماسكا، قابلا للتفاوض والمجادلة لكنه لم يتغير... لم يقنعني أحد سواء بمقولات منمقة أو شعثاء بأنه قد آن للإنسانية أن تخلف وراءها هذا التقليد اللا إنساني بل وأن يتم عمل موسوعة عالمية من نوعية "إعدام بيديا" أو "ويكي إعدام" يتم فيها التوثيق لأشهر حالات الإعدام وأكثرها صدمية وتصادمية مع الحس الإنساني, تماما كما يوثق للتعذيب الممنهج في أوروبا وتقام له المتاحف بوصفه ممارسة تاريخية تحتمل الحضارة الإنسانية خزيها و نفضت منها اليدين.

هكذا ظل الأمر إلى أن جاءت هذه الأيام التي بدأت تتوالى فيها على أرض المحروسة أحكام إعدام جماعية فغدوت أصحو يوما بعد يوم على عبارة "عرض أوراقه على مفتي الديار المصرية" فأجد قلبي منقبضا والمسافة النفسية والعقلية بيني وبين مفهوم الإعدام تزداد اتساعا. 

لست أدري متى تحديدا قررت في عمق وجداني وعقلي أنه قد آن بالفعل الأوان للحضارة الإنسانية أن تعطل هذه العقوبة وأن تهجرها هجرا جميلا إلى غير عودة، لكن يبدو الأمر لي كما لو كنت نمت أدافع عن فلسفة عقوبة الإعدام ثم صحوت وقد رفضتها فطرتي وعقلي سواء بسواء.

لقد صحوت ذات يوم فلم أعدا قادرة على التفرقة بين الإعدام والثأر، وقد بدا لي كلاهما واجدا جذوره في أدنى طبقات النفس البشرية حيث الغضب والرغبة في العربدة على جثث القتلى تشفيا والزهو بأننا الطيبون الذين لم تقطع رؤوسهم فيما مات الأشرار!

هي ذاتها الطبقة النفسية التي دعت أكثر من مرة "الأهالي" في هذه المحافظة المصرية أو تلك للتحلق حول جثة عارية مصلوبة على عامود نور أو شجرة في هذه المحافظة أو تلك بعد أن "قفشه" هؤلاء الأهالي سارقا أو متحرشا أو ما سواه... هل رأيت تلك الوجوه المتشفية المنتصرة السادية لهؤلاء الأهالي؟ هل رأيت معي بعضهم يلتقطون صورا "سيلفي" مع الجثث؟!.

هل هذا مجتمع له أن يشرعن عقوبة الإعدام؟ 

لا يمكن أن يكون هذا هو القصاص الذي منه تنبثق الحياة يا أولي الألباب! 

حاضرت كثيرا في مجال حقوق الإنسان أمام طلاب متحمسين يأكل الفضول رؤوسهم إزاء الكلمات الرنانة التي يسمعونها من قبيل "إنسانية" و "انتهاك" و"شرعة دولية", ويأكل الشغف وجدانهم لمعرفة حقوقهم وكيف يقتنصونها من مجتمعهم. 

لعبت والطلبة ألعابا ذهنية كثيرة من بين موضوعاتها كان التعذيب والحق في الحياة وعقوبة الإعدام والموت الرحيم، لأجد أمامي طوفانا غضا من الأفكار الغاضبة والمتعصبة وتلك الأخرى الثائرة والمدهشة. 

حاولت دائما الوقوف على الحياد الفكري بينما يناظر الطلاب المتحمسون لعقوبة الإعدام نظراءهم من القائلين بهمجيتها والمطالبين بوقفها، شاهدت معهم الأفلام الوثائقية والأفلام السنيمائية التي تناولت الموضوع حتى كانت تجهدنا المشاهدة والرصد والتفكير فيوقف أحدهم المناقشة مطالبا إياي بالإفصاح عن رأيي كي يتحيزوا له دون جهد فأصر على الصمت!

كنت أحب أن أرى عقولهم نهمة متواثبة وراء الأفكار كما كنت أحب أن أترك البراح لعقلي كي يرتد دوما عما اعتنق ذات يوم. 

*** 

بعد أن ثارت ثائرة المصريين في 2011، وبعد فترة من بدء محاكمات القرن عزف المصريون عن المتابعة بشغف ذلك أنهم أحسوا أن محاكمات رموز النظام السابق "حبالها طويلة" ومملة وخاوية من الروح الثورية التي تعطشوا لها طويلا, وكأنها مسلسل تركي ماسخ...حينها دافع البعض عن الصورة التي جرت عليها المحاكمات محتجين بأن البديل هو إقامة محاكم ثورية تريق الدماء وتستدعي ثورا من الثورة الفرنسية وسواها من الثورات الراديكالية الدموية, وكأنهم يطيبون خواطر المصريين على طريقة "معلش قلبك أبيض"! 

ثم ما لبث أن عاد التشويق للمشهد المصري بعد 30 يونيو وبدت وتيرة المحاكمات أقل سلحفائية وبدت العدالة ناجزة والإعدامات قريبة والعدالة ناجزة بل ولهلوبة كذلك في تناقض غير مفهوم وفي ظل تغيرات سياسية تجبر الرائي على وضع الإعدامات الأخيرة بين أقواس, لتتأرجح العقوبة بين كونها إعداما شرعيا وكونها قتلا جماعيا متمحكا بالقانون والمجتمع.

إن الحق في الحياة يبدأ لدى كثير من الفقهاء والمنظرين القانونيين منذ "لحظة الإدراك", أي تلك اللحظة التي تدرك الأم فيها أن كائنا حيا ما ينمو في أحشائها، ويلازم الحقُ صاحبه إلى أن يلقى وجه ربه بطريقة طبيعية دون تدخل أي طرف ولا حتى بتحريض من صاحب الحق نفسه.

لكن المصري إن لم يمت بالسيف مات بغيره، فالدولة المصرية منذ عقود تتفنن في انتهاك الحق في الحياة، ابتداءً من التردي القاتل في المنظومة العلاجية والطبية، ومرورا بأعمال التعذيب والإخفاء القسري والعنف الجمعي في أوقات التجمعات حتى السلمي منها ووصولا إلى عقوبة الإعدام التي، ولا تندهش، خصص قانون العقوبات المصري 70 جريمة (بحالها) تستوجب تنفيذها!.

نهايته...إلى كل الطلاب الذين حاضرتهم والذين ألغزتهم وحيرتهم بصمتي عن موقفي من عقوبة الإعدام، ها أنتم أولاء غدوتم تعرفون "اللي فيها" دون كثير لبس!

*باحثة في العلوم السياسية

إعلان

إعلان

إعلان