لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تفكيك الأساطير.. أو كيف يستبدل الناس الدين والدجل عوضاً عن العلم

تفكيك الأساطير.. أو كيف يستبدل الناس الدين والدجل عوضاً عن العلم

05:09 م الثلاثاء 16 فبراير 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

(1)

بقلم - حازم دياب:

تهوى الشعوب عموماً فكرة الأساطير، لا يحبذون العلم أو النظريات التي تفضي إلى نتائج مؤكدة، ليس فقط أهل الدول النامية هم الذي يلجأون إلى الخرافات، لكن حتى سكان من يطلق عليهم اصطلاحاً الدول المتقدّمة يفضلون أن يضحك المدعين عليهم بكلام معسول في مقابل الحصول على ما تلوكه الألسنة.

هناك قصة حدثت في بلاد الإغريق، في القرن الثاني بعد الميلاد وأثناء حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس، عاش رجل يدعى ألكساندر من أبونيوتيكوس وكان من أساتذة النصب والاحتيال. كان وسيماً وحاذقاً ولا خلاق له، وكان بحسب وصف أحد معاصريه "يتعيش على موارد غامضة". وفي واحدة من أشهر قصص خداعه أنّه اندفع إلى الأسواق عارياً إلا من مئزر مرصع بالذهب يحيط به وسطه وحاملاً سيفاً معقوفاً وهو يهز شعره الطويل مثل المجاذيب الذين يجمعون النقود باسم سايبيل إلهة الطبيعة. تسلق فوق مذبح عالٍ وألقى خطبة رنانة متنبئاً فيها بظهور إله نبوئي جديد. ثم هرع إلى موقع بناء معبد جديد متبوعاً بالجماهير واكتشف شيئاً دفنه مسبقاً وهو بيضة إوزة وضع بداخلها ثعباناً وليداً. فتح البيضة وأعلن أن هذا الثعبان الوليد هو الإله الذي تنبأ به.

اعتكف ألكسندر بمنزله عدّة أيام بعدها سمح للجماهير مبهورة الأنفاس بالدخول عليه حيث وجدته وقد التف حول جسده ثعبان ضخم، فقد نما الثعبان الوليد نمواً هائلاً في الأيام الفائتة. وكان الثعبان في حقيقة أمره من النوع الضخم المسالم، وقد اشتراه من مقدونيا مسبقاً خصيصاً لهذا الغرض. وزوّد الثعبان بغطاء رأس من الكتان يمنحه هيئة مختلفة، ولم يكن يسمح لأحد من الناس بالمكوث طويلاً في الغرفة؛ لكي لا يفتضح أمره. أعلن تزويد الشعب بإله جديد يجيب على أسئلتهم.

القصة الفائتة كانت منذ قديم الأزل وأوردها العالم الأمريكي كارل ساجان في كتابه رومانسية العلم المترجم من قبل د. أيمن توفيق، والقصة ترسّخ لفكرة أساسية: أن الناس يحبّون من يخبرهم بما يجهلونه، ويودون أن يصدقون الغريب مهما بدا غير قابل للتصديق، ومما يسبغ على القصة قدسية أن تردد أن الإله أو الدين يقول كذا.

وفي عام 1848، في نيويورك كان هناك الفتاتان مرجريت وكيت فوكس، اللتان في حضورهما تسمع دقات مشفرّة من عالم الأرواح. تسألهما: هل أتزوّج فلانة. فتكون الإجابة عبارة عن دقّات: واحدة تعني لا، ثلاث دقات تعني نعم. وصارت ظاهرة: اهتم بهما أغلب مثقفي العالم مثل الأديبة إليزابيث براونينج. بعد مرور أربعين عاماً، قدّمت مرجريت اعترافاً مكتوباً بوازع استيقاظ للضمير يقول إن الدقات كانت مجرّد طرقعة أصابع القدم ومفصل الكاحل، مثل ما يحدث من طرقعة لليد. هل صدقّ الناس الاعتراف بالحقيقة؟.. الحقيقة أن الناس حينذاك قالوا إن مرجريت اعترفت بذلك بالإجبار تحت لجنة تحقيق قاسية. يقول كارل ساجان: "الناس نادراً ما يقرون بالجميل لمن ينبّههم إلى سذاجتهم".

هناك عشرات من هذه القصص يمكن سردها والتي تؤكد أن الدجل والشعوذة والادعاء بالتواصل مع الأرواح وأحياناً تحت مظلّة الدين لإخبار الناس بمستقبلهم، وحديثاً كان هناك لامار كين الشخص الذي عمل وسيطاً روحياً لمدة 13 عاماً، ثم أعلن أنّه أن ما فعله طوال الأعوام الفائتة كان دجلاً. وهناك لجنة تأسست في أمريكا عام 1926 كان اسمها "لجنة للبحث العلمي في الادعاءات الخارقة للطبيعة".

(2)

الدين دائماً ما يصطدم بأي جديد، والشعوب عادةً ما تصدّق رجال الدين سواء كانوا شيوخاً أو قساوسة. في أمريكا في أعقاب أحداث 11 سبتمبر قال الكاردينال في الكنيسة أن سبب ما حدث ابتعاد الناس عن الدين، ويروي كثيراً من علماء الاجتماع نظريات تؤكد أن موجة كبيرة من التديّن ظهرت في المجتمع المصري في أعقاب زلزال 1992. والمتابع للتاريخ القديم والحديث يرى أن كثير من الأمور حين تتجلى في المجتمع كانت الفتوى تقضي بالتحريم رغم أن الأصل في الدين الإباحة. واحدة من الحوادث الشهيرة: تحريم القهوة. بمجرّد ما ظهرت القهوة، ويرى المعظم بأن ذلك كان في عام 1572 ميلادياً تقريباً، انبرت الفتاوى الأزهرية بتحريمها، حيث كان شربها يمنح العقل مزيد من اليقظة، دافع المفتون وقتئذ بأن ما يؤثر على العقل بالسلب أو الإيجاب يكون محرّماً، وكان الربط بين القهوة والخمر كبيراً، فقيل أنّها من أنواع الخمر. وقد ألف الشيخ عبد القادر الجزيري كتاباً عن الأمر أسماه "عمدة الصفوة في حل القهوة" يقول الشيخ عبد القادر في الكتاب: "كان العسس على الفحص وبيوتها وباعتها شديدًا جدًّا، وضربوا وأشهروا وهدموا البيوت وكسروا أوانيها المحترمة الطاهرة التي هي مال لرجل مسلم". فاستمر تحريمها نحو مائتي عاماً، حتى أحلت وصارت مشروب الشيوخ أنفسهم.

عشرات الحوادث تتعلّق بتجريم الدين بعيداً عن تأصيل العلم، وفي مصر حين دخل مشرب "البيبيسي كولا" كان حدثاً بعد أن كان الاعتماد على "السباتس" كالمشروب الرسمي بدلاً من عصائر الفواكه المعتادة. انبرى عدد من الشيوخ ليفتي بدخول زيوت مستخلصة من لحم الخنزير ضمن المواد المصنعة لهذا البيبسي، ولمّا كان الخنزير حراماً، كان البيبسي كذلك. الأمر الذي دفع بعض الشيوخ للتجويد بالقول إنّه لا يجوز الصلاة لمن يشرب البيبسي. هنا انصرف الملايين عن شرب هذا المشروب السحري، ما دفع الشركة الأم لأن تنتج حملة ضخمة عن المشروب الذي أسمته بـ"المشروب الحلال". وكان تقبّل الناس بعد رفض أولي لأن الأسطورة الدينية قضت بحرمانيته.

(3)

جرّب أن تشاهد مقالاً الآن أو تسمع مذيعاً يتحدّث عن مصطفى وعلي أمين. سوف تلمح اتهاماً بالعمالة بالطبع ممن لعبت المؤامرات برأسهم حتى أكلت ما تبقى من تفكير فيها، لكن ستجد الآخرين يقولون بأنّهم أساطير الصحافة الذين أدخلوا ألوان جديدة وفنون لم تكن تعرفها هذه المهنة العتيقة. سيقول أحدهم أن عيد الأم يرجع فضله إليهم.

من الأشياء التي ساهمت فيها ثورة يناير هدم أسطورة الأشخاص، أن تفكك أسطورة محمد منير أو الفنان المثقّف بشكل عام، الذي يتضّح أنّه ينجذب إلى السلطة بمجرّد وقوع حدث يجبره على الاختيار بين الناس والنظام، فتجد أن كثيرين من الفنانين والأدباء والساسة اختاروا طواعية النظام، والأمثال عدّة.

نعود إلى الأخوين وحال الصحافة، يقول د. جلال أمين في كتابه الصادر "مكتوب على الجبين.. حكايات على هامش السيرة الذاتية"، إن الصحافة كانت هي عنوان الحقيقة، وكانت الأهرام بالذات هي المنوطة بذلك، حيث كان الميت لا يصبح ميتاً إلا إذا نُشر نعيه في الأهرام. يقول أمين إن الصحافة في ذلك الأوقات لم تكن تلتفت إلى أخبار الفنانين بشكل أساسي. وكان نمط الصفحة يعتمد على الكلام المكتوب بشكل نمطي وغير مبهرج، أكثر من اعتماده على الصور. بمجرّد دخول مصطفى وعلي أمين إلى سوق الصحافة من خلال تجربة أخبار اليوم، كان يمكن أن تكون الصفحة الأولى للجريدة، صورة ضخمة لتحيّة كاريوكا مكتب أسفل منها باللون الأحمر: "القبض على تحيّة كاريوكيا"، ويقول متن الخبر إنّه تم القبض على الفنانة والراقصة الشهيرة في الدور الذي ستقوم به في فيلمها المقبل. وكانت هذه النوعية من الأخبار المثيرة تجذب بطبيعة الحال القارىء الذي تحوّل من نمط الخبر والمعلومة إلى نمط الصورة، وظهرت في أعقاب ذلك الصحافة الفضائحية. لا يمكن بأي حال اعتبار أن الأخوين أمين هما سبب كوارث المهنة التي تعتمد على الإثارة حالياً، لكن أسطورة أنّهم نبراس المهنية يمكن تفكيكها.

(4)

اللغة أيضاً من الأساطير التي مازال البعض يعيش تحت براثنها، وهناك من يظن أن التقعّر في اللغة والرجوع إلى المعاجم لاستخراج ألفاظ صعبة ربما ينتج أدباً راقياً، والجوائز مؤخراً مشكورة بدأت تعتمد التجديد كمعيار أساسي في اختيار الأعمال المتميزة. يحكي جلال أمين في كتابه "مكتوب على الجبين" حكاية طريفة عن فكرة التجديد عموماً وفي اللغة خصوصاً. يقول إن مجمع اللغة العربية عقد جلسة لتعريب بعض المصطلحات الاقتصادية، أخبروه أن يقذف بالكلمات التي يرى تعريبها ثم يترك الجلسة للخبراء العشرين المتواجدين في القاعة التي يجلس على رأسها طه حسين.

أوصى أستاذ جلال باستخدام "انكماش" كمقابل للمصطلح الإنجليزي "deflation'. هنا انبرى رجل يصيح بشدّة أن هذا يبتعد بالمعنى عن أصله، مستشهداً "كمش الحصان أي أسرع في سيره". هذا الرجل هو عباس حسن صاحب كتاب النحو الوافي، وكان يعتبر من أقدر اللغوين الأحياء. نظر إليه طه حسين وقال بصوته الفخم:

- جبتها منين دي يا عباس؟

فإذا به يرد ممسكاً بكتاب لا يذكر جلال أمين عما إن كان لسان العرب أو مختار الصحاح. توجه طه حسين بالكلام إلى جلال أمين وسأله: هل درجتم أنتم معشر الاقتصاديين على استخدام هذا المصطلح، أي الانكماش، بهذا المعنى؟. فكان الجواب: نعم. فإذا بطه حسين يفاجىء الجميع بقوله لعباس حسن:
- طظ يا عباس.

يقول جلال أمين إن الصمت عم على المكان، واستمر في قراءة بعض المصطلحات ولم يقاطعه أي شخص آخر طوال الجلسة.

الآراء الواردة في المقال تعبر عن الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن مصراوي

إعلان

إعلان

إعلان