لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أشرف أبو الخير يكتب - ويسألونك عن عَمَان.. اسمه "أميـــر" – (4)

اشرف ابو الخير

أشرف أبو الخير يكتب - ويسألونك عن عَمَان.. اسمه "أميـــر" – (4)

03:57 م السبت 26 مارس 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - أشرف أبو الخير:

تعلمت مع الوقت أن أُصغي لقصص النجاح المقرونة بالكثير من الكفاح، فمنها أتعلم، ومنها أعرف أن العالم به الكثير لنكتشفه بعد، واليوم أَقُص عليك واحدة من أعظم القصص التي عايشتها هنا بالمملكة الأردنية الهاشمية، قصة كفاح شاب مصري ريفي بسيط، شق طريقه بدأب وثبات حتى صار ما هو عليه الآن، قصة ينبغي احترامها وتأملها، لندرك جميعاً أن كلا منا مسؤول عن صياغة نجاحه بنفس قدر مسؤوليته عن صياغة فشله، مهما كانت ظروفه، ومهما كانت خلفيته.

عشت أنا كل حياتي –قبل انتقالي إلى عَمَان- كمواطن مصري، قاهري، وانقسمت حياتي تلك بين اثنين من أرقى أحياء قاهرتنا الضخمة البديعة، مدينة نصر والمعادي، نلت حظاً وافراً من التعليم حتى المرحلة الجامعية، فكان من الصعب عليَ إدراك طريقة الحياة خارج القاهرة، وما يعايشه بني وطني في مدن وقرى الريف والصعيد... بطبيعة الحال قابلت منهم العشرات ممن يعملون بالقاهرة الكبرى، بيد أن اختلاطي بهم كان محدوداً، وأعترف أن هذا الاختلاط كان به مسحة تعالي سخيفة مني بناء على الفروق الطبقية، ذلك حتى قابلت "أمير" فتغيرت طريقتي في رؤية الأمور جذرياً.

لم أستأذن أنا منه قبل كتابتي لتلك السطور، تخوفت أن يُحرج أو يَرفض، والحقيقة أنني أحببت قصته للغاية ولست أملك من أمر كتابتي عنها شيئاً، فقررت احتراماً له كزميل عمل أُقَدره وأحترم كفاحه، أن أكتب بعد تغيير اسمه الحقيقي ليصبح "أمــير" كما غيرت بعض التفاصيل البسيطة التي لن تؤثر في السياق ولا في خلاصة القصة.

يقترب "أمير" من الثلاثين، وهو ابن الريف بامتياز، تعلَم حتى حصل على الإعدادية من بلدته الصغيرة بشمال مصر، ثم تنقل بين أعمال حرفية ويدوية مختلفة وغيرها من الأعمال المرتبطة بالزراعة حتى جاءته فرصة السفر إلى الأردن قبل تسع سنوات أو يزيد.. للعمل كعامل نظافة في إحدى الشركات الخاصة... وهنا على هذه الأرض الطيبة، تُشير التقديرات –غير الرسمية- إلى أن عدد المصريين العاملين بالبلاد يقترب من المليون شخص، يعمل معظمهم في مهن متواضعة، كعمال بناء، حراس عقارات، عمال نظافة، الخ، فكان أن توكل صديقنا على الله تعالى، واستقل العبَارة التي أقلته مع المئات إلى ميناء العقبة، وبعدها بساعات كان يضع قدمه للمرة الأولى على أرض عَمَان.

طوال السنوات المنقضية، تنقل "أمير" بين شركتين أو ثلاثة، كصبي بوفيه صباحاً، وعامل نظافة مساءً، عاش الرجل في ظل ظروف غاية في الصعوبة، يعمل بكد ليل نهار، ويحاول توسيع دائرة معارفه هنا بالأردن، يحاول التقاط كلمات انجليزية من هنا أو هناك –في مجتمع يجيد السواد الأعظم منه التحدث بالإنجليزية- ويحاول كذلك من التقرب إلى الجميع بشخصيته الودودة، خفيفة الظل، والمحترمة.

استقر الحال بـ "أمــير" قبل سنوات داخل شركة تعمل بمجال الإعلام والترفيه، وفرت له مسكن نظيف هادئ داخل واحدة من الغرف غير المستغلة، فكان يبيت لياليه في نفس مكان عمله، ظل يتابع أيادي زملاؤه بالمكتب طوال شهور وهي تعمل على أجهزة كمبيوتر متنوعة، يقرأون شاشات مختلفة بلغة إنجليزية، واستطاع التقاط معلومات متناثرة حول طبيعة عمل كلا منهم... ولأنه يقضي لياليه وحيداً مع تلكم الأجهزة، قرر في ليلة أن يتخلى عن سهره مع الفيسبوك والأفلام والمسرحيات، وأن يتجرأ على فتح إحدى تلك المشروعات الفنية التي يعمل عليها الزملاء، وبالتجربة والمحاولة والكثير جداً من الأخطاء، استطاع "أمير" أن يجيد فن المونتاج بنسبة معقولة بعد شهور ثلاثة... سَعِدَ به الجميع، وكان أن كلفه أحد المديرين بالقيام بمونتاج أحد الأفلام القصيرة بمساعدة أحد المونتيرين المحترفين بالشركة، وحين رأى أمير اسمه على "التتر" لأول مرة، قرر ألا يترك الأردن إلا وهو من نجوم هذه المهنة، وقد كان.

بعد أسابيع ليست بالطويلة، صدر قرار داخلي بتلك الشركة بإعفاء زميلنا العزيز "أميــر" من مهامه كعامل بالشركة، وتم ترقيته إلى وظيفته الجديدة مع رفع راتبه ليتلائم مع وضعه الجديد.. وهو الآن يعيش في منزل طبيعي بأحد أحياء العاصمة الأردنية، ويتذكر تلك الحكاية بالكثير من السعادة، والقليل من الإحراج، لكنني أرفع صوتي إليه عالياً، ألا تخجل من هكذا قصة يا عزيزي، بالعكس تماماً، فمثلك ممن يقهرون ظروفهم بصبر ودأب يجب ألا يقابلهم الآخرين إلا بالكثير جدا جدا جدا من الاحترام والفخر، كما أعترف أنا بأن "أميــر" ساهم في تخليصي من بعض عقد الغرور والتعالي التي كنت أُعاني منها طوال عمري، فله جزيل الشكر والتقدير.

لكم المودة بلا حدود، وإلى الأسبوع القادم.


اقرأ باقي الحلقات

ويسألونك عن عَمَان.. في البدء كانت الهجرة (1)


ويسألونك عن عَمَان.. من وحي أزمة أوبر وكريم (2)


أشرف أبو الخير يكتب - ويسألونك عن عَمَان.. مصر ليست أم الدنيا (3)

إعلان

إعلان

إعلان