لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أصولية الدكتور جلال!

أصولية الدكتور جلال!

محمد شعير
09:00 م الخميس 30 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ليلة 25 يناير 2011 أقامت دار الشروق احتفالية كبرى للدكتور جلال أمين، بمناسبة صدور سيرته الذاتية "رحيق العمر"، يومها ازدحمت المكتبة بمئات الشباب من خلفيات ثقافية مختلفة، وانصبَّت أسئلتهم له حول ما جرى في تونس، وما سيجري "غدًا" في مصر.

كان كلام أمين صادمًا للشباب الحالمين، قال: "ثمة مؤامرة، وهي النظرية التي يرفضها الكثيرون؛ ولكنها بالنسبة لي هي الأسلوب الأمثل لتفسير كثير من الأحداث الكبرى في التاريخ".

وأضاف لتأكيد وجهة نظره: لم يثبت أن من قام بتفجير برج التجارة العالمي في أمريكا عرب، ولكن تم اتهامنا -نحن العرب- للتمهيد لغزو العراق، ومن ثم التشهير بالعرب والمسلمين".

يومها، طلب الشباب من "أستاذهم" أن يجرِّب النزول معهم للتظاهر، حتى يتأكد بنفسه من جديتهم ورغبتهم في تغيير الأحوال الراكدة، ولكنه قال: "لا أستطيع المشاركة في التظاهرات الحاشدة، لكني كمثقف أركز على التوعية بالفكر، فالمثقف ليس دوره الوحيد التحريض على الثورة، بل أن يكون صادقًا".

لم يتعامل الشباب وقتها مع ما قاله أمين باعتباره كلامًا مقدسًا، كان حماسهم ورغبتهم في التغيير أقوى من نصائح الشيوخ وحكمتهم "الزائفة"!.

ظل جلال أمين ثابتًا على أفكاره فيما يخص الثورة، ولذا ليس مدهشًا تصريحاته الأخيرة، والتي اعتبر فيها "ثورات الربيع العربي مخططًا خارجيًا"...فالرجل يقدّس نظرية المؤامرة، لا يرى شيئًا سواها، يفسَّر من خلالها العالم.. لذا يصبح عالمه ضيقًا، وقدرته على الإدراك محدودة!

النظر إلى العالم من خلال نظرية المؤامرة لا ينفرد به عقل الدكتور جلال وحده، ولكنها سمة تخص العقل الأصولي، العقل المستريح في جهله، وعدم قدرته على اختبار أفكار جديدة، والعقل الأصولي –أيضًا- لا يختص به توجّه سياسي أو ديني بقدر ما هو رؤية وطريقة نظر إلى العالم، ربما من خلال لونين فقط: الأبيض والأسود، مع عدم القدرة على إدراك التنوع، أو بقية الألوان في المشهد.

المدهش في ثبات أفكار د. جلال حول الثورة أن حياته نفسها سلسلة من التحولات، بل هو بارع في القفز بين الأغصان، أو الأفكار والمذاهب.

جلال أمين يراه البعض مفكرًا يطلق النار برومانسية شديدة، بينما يراه آخرون "نبي الطبقة الوسطى". اسمه على كتاب يضمن نفاد طبعاته في وقت قياسي، وتقديمه لكاتب يجعله في مصاف الـ"بيست سيللر".

أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية، يكره الاقتصاد، ويعشق الأدب. جرَّب أن يكتب قصصًا قصيرة نشرها له والده في مجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها، وهي قصص فاشلة – حتى بمعيار ذلك الزمان، ولكن يمكن أن نغفرها له باعتبارها نزوة شاب على أعتاب المراهقة، وجد أباه رئيسًا لتحرير مجلة كبرى، متاحة له لكى يكتب ما يشاء!

بدأ أمين ماركسيًا، ولكنه اكتشف بعد فترة "قصور النظرية".. فانتقل إلى "الوضعية المنطقية" التي تخلى عنها أيضًا.. التحق لفترات طويلة بحزب البعث، ولكنه لم يصمد طويلًا. رحلة من التحولات الفكرية ليجد نفسه مصنَّفًا باعتباره من جماعة "التراثيين الجدد"، التي ترفع شعار "الدين هو الحل".

لا يعرف أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية أين يقف الآن، "والله ما أنا عارف" هكذا يقول. ولكن يعتبر "الهوية الثقافية" هي قضية حياته لا شيء آخر، ينشغل بها كقضية عمره الفكرية، ويظن أنها ستظل تشغله حتى النهاية. هذا الاهتمام الهويَّاتي جعله "كاثولكيا" في الأدب، لا يحتمل أي خروج، أو "تمرد".. من هنا هاجم بضراوة رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، بل ساهم بهجومه عليها في منع الجامعة تدريسها للطلاب، كما هاجم أيضًا رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر. باعتبار أن" الأدب السامي لابد أن يكون أخلاقيًا" كما يقول. وفي انشغالاته الأدبية ينحاز دائمًا إلى الأدب المريح، الحكاية الساذجة التي تقدم معنى أوليًا، لا يدفع إلى التفكير، يصيبه الملل عندما لا يجد حكاية.. ولا تشغله اللغة أو التجريب!

والانشغال بسؤال الهوية يقود دائمًا إلى ذلك التمترس وراء أفكار كبرى، تحتاج إلى أنبياء.. ولأنه ليس نبيًا يلجأ إلى المؤامرة لتفسير العالم. لذا اعتبر أمين أن طه حسين هو مثال للتنوير الزائف، الذي يقودنا إلى التغريب الكامل!

المفارقة أن صاحب "ماذا علمتني الحياة" درس الدكتوراه في لندن، وتزوَّج هناك إنجليزية، ويقوم بالتدريس في الجامعة الأمريكية، وبحكم المصاهرة يقضي شهور الصيف في العاصمة البريطانية، ويسكن ابناه في أمريكا.. وهو الأكثر هجومًا على الغرب، للأسباب نفسها التي يهاجم بها الأصوليون الغرب!

في مذكراته يحكى أمين أن والده قرر أن يتخلّص من حمل والدته به، مكتفيًا بما أنجب من أبناء، وهو أمر لم يكن -في ثلاثينيات القرن الماضي- معتادًا وقتها كثيرًا، وما زال محرمًا من كثير من الفقهاء. لذا لم يكن هناك طبيب مسلم في ذلك الوقت يقبل بهذه المهمة. رتب والده موعدًا مع طبيب إيطالي للقيام بإجهاض الأم التي حاولت الهرب، ولكنها لم تستطع عصيان الأب. ويتابع أمين: "جلست أمي أمام الطبيب الإيطالي، وسمحت له بأن يبدأ الكشف. ثم تحرَّك في قلبها غضب غريزي، جعلها تدفع الطبيب بقدمها بكل قوتها، صائحة في ثورة: روح يا شيخ، هو أنا حبلى في الحرام... فتراجع الطبيب خائفًا، وقال بلكنة أجنبية ظلت دائمًا مبعثًا للضحك في أسرتنا: يا خبيبي أنا مالي؟ عايز تسقط تسقط، عايز تخبل تخبل"...هربت الأم من عملية الإجهاض لتنجب لنا د. جلال!

إعلان

إعلان

إعلان