لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

إلياس كانيتى: حكاية سلطان دلهي

إلياس كانيتى: حكاية سلطان دلهي

محمد شعير
08:59 م الخميس 09 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

دائماً ما يعقب إعلان جائزة نوبل كل عام، تسابق الناشرين والمترجمين على ترجمة أعمال الحاصل على الجائزة. إلا أن حظ الكاتب الألماني الشهير إلياس كانيتى لم يكن كذلك. كانيتى حصل على الجائزة عام 1981، ولم يُترجم إلا عدداً محدوداً من أعماله، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وحتى الآن لايزال كتابه العمدة "الجماهير والسلطة" غريباً عن العربية رغم ترجمته إلى عشرات اللغات الأخرى. 

وكان القاص والمترجم أمير زكى أقدم على ترجمة فصلين من الكتاب، يلقيان الضوء على أفكاره الرئيسية بشكل موجز. في الكتاب- كما ترجم أمير زكى- يعود كانيتى إلى رحلات ابن بطوطة ليقدم جانباً مهماً مما رواه الرحالة العربي عن سلطان دلهي "محمد تغلق"، وهو إحدى الشخصيات الغامضة في الثقافة الإسلامية، اختلف حوله المؤرخون إذ اشتهر أحيانا بالكرم والشجاعة، وأحيانا أخرى بالفتك والبطش. قيل إنه كان تقياً، ملتزماً تماماً بمبادئ دينه وممتنعاً عن الخمر. ولكن مؤرخين آخرين وصفوه بأبشع الاتهامات ومن بينها أنه أجبر سكان دلهي على ترك المدينة، إذ كان لدى سكان المدينة عادة كتابة رسائل إليه يهينونه ويسبونه فيها، كانت تُختم ويكتب عليها "إلى سيد العالم. ما يقرأها غيره"، ويلقونها في قاعة الجمهور ليلًا. عندما ينزع السلطان الختم لا يجد سوى الإهانات والشتائم.

في النهاية قرر أن يحول دلهي إلى حطام، دفع للسكان القيمة الكاملة لمنازلهم وبيوتهم وأمرهم أن ينتقلوا إلى دولت آباد، تلك المدينة التي أراد أن تكون عاصمته. "فأبوا ذلك، فنادى مناديه ألا يبقى فيها أحد، فانتقل معظمهم، واختفى بعضهم في الدور فأمر بالبحث عمن بقي بها، فوجد عبيده بأزقتها رجلين: أحدهما مقعد والآخر أعمى، فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمى به في المنجنيق، وأمر أن يجر الأعمى من دلهي إلى دولة آباد، مسيرة أربعين يوما فتمزق في الطريق، ووصل منه رجله، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعا، وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها.

وكما يكتب ابن بطوطة: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره، فنظر إلى دلهي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج، فقال: الآن طاب قلبي وتهدن خاطري، ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دلهي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دلهي لاتساعها وضخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا، وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية، ليس بها إلا قليل عمارة".

غضب السلطان كان ناتجاً من ذلك التوتر بينه وبين شعبه، وقد تنامى ذلك الغضب مع مرور الزمن، يمكن للمرء الآن فحسب أن يخمن دلالة الرسائل التي كانت تلقى في ردهة قصره، ولكن هناك أرضية للاعتقاد أنها كانت تشير إلى الطريقة التي وصل بها إلى العرش، فقد كان الشعب يعتقد أنه وصل إلى السلطة بعد أن قتل أبيه!

وقد كانت أحلام "تغلق" بلا حدود، كان يريد أن يجعل العالم كله تحت حكمه، ووضع مخططات طموحة لتحقيق هذا المشروع. لا يوجد أحد من أصدقائه أو مستشاريه كان مسموحاً له بأن يعرف سر تلك المخططات؛ احتفظ بها لنفسه، كما تصورها بنفسه، أي فكرة فكر بها كانت ترضيه، لم يشك في نفسه أو في هدفه؛ بالنسبة له بدت الوسائل التي استخدمها ليحقق الأهداف التي يرغبها واضحة ذاتيا.

غزو العالم استدعى جيوشاً ضخمة، وهذا بدوره استدعى أموالاً أكثر، كان في حاجة سريعة إلى المال وبالتالي بحث عن طريقة لدعم هذا النقص بضربة واحدة، سمع شيئا عن المال الورقي المستخدم في الصين ونقل الفكرة ليصنع شيئا مشابها مع النحاس، سك كمّاً كبيراً من العملات النحاسية، وبشكل اعتباطي جعل قيمتها تساوي قيمة العملات الفضية، وأمر باستخدامها بدلا من الذهب والفضة. سريعا تم البيع والشراء عن طريق النحاس. نتيجة هذا القرار أصبح كل بيت هندي مصنعاً خاصاً لسك العملات؛ في كل مقاطعة كانت تصنع العملات النحاسية بالملايين وتدفع بها الجزية وتُشترَى بها الجياد وكل الأشياء الطيبة. الأمراء، وعُمَد القرى، وأصحاب الأراضي أصبحوا أثرياء وصارت الدولة فقيرة. سريعا سقطت قيمة العملة الجديدة، بينما صارت العملات القديمة نادرة جدا، في النهاية لم تعد للعملات النحاسية قيمة أكبر من قيمة الحصى. احتفظ الناس ببضائعهم وركدت التجارة، عندما أدرك السلطان نتيجة قراره أبطله بغضب شديد وأمر بأن تسلم كل العملات النحاسية إلى الخزانة ليتم استبدالها بالعملات القديمة، قراره الخاطئ جعله أكثر غضباً على رعاياه.

طريقة أخرى لجلب النقود هي فرض الضرائب، تحت حكم أسلافه كانت هناك بالفعل ضرائب عالية، والآن ارتفعت وصارت تُجمع بقسوة شديدة، تحول الفلاحون إلى شحاذين. أي هندي كان يملك أرضاً تركها وهرب إلى الغابة لينضم للمتمردين، كانت هناك جماعات كبيرة وصغيرة منهم في كل مكان، ظلت الأرض بدون حرث، تناقص كم الحنطة، صارت هناك مجاعة في المقاطعات الرئيسية، وذلك بعد جفاف طويل انتشر في أنحاء الإمبراطورية، بقيت المجاعة لعدة سنوات، تمزقت الأسر، جاعت مدن كاملة، وفني الآلاف من الناس.

جلبت هذه المجاعة الثورات التي اندلعت في مقاطعة تلو الأخرى. كان محمد في ساحة المعركة باستمرار، يسحق الثوار. تنامت قسوته. دمر مناطق كاملة؛ وأي شخص كان يتم أسره هناك– رجل أو امرأة أو طفل– كان يُذبَح. انتشر الرعب بشكل عظيم، ومع الخوف والخراب استمرت الثورات، ومع ذلك لم يشعر محمد بالندم من قسوته؛ كان مقتنعا تماما أن كل المعايير مقبولة، فقد كان يسيطر على عقله أربعة أنواع من الحشود: جيشه، ثروته، جثثه، وبلاطه (ومعها عاصمته)، يلعب معهم بدون توقف، ولكنه ينجح فقط في إنماء حشد الجثث على حساب بقية الحشود. ينمي جيوشاً عظيمة، ولكنه بفعل ذلك ينقص من ثروته. ينفي سكان مدينته كلها من عاصمته، وفي النهاية يجد نفسه وحيدا في مدينة كبيرة، يذوي غضبه وهو ينظر إلى المدينة الفارغة من سطح قصره. يبتلع إلى النهاية بهجة الشخص الناجي، بغض النظر عما يفعله، كان هناك حشد واحد قرر أن يحافظ عليه خشية أن يتزايد ضحاياه.

الكتاب ممتع بالفعل، وفى حاجة إلى مبادرة من المركز القومي للترجمة ليترجم كاملا، ولنشكر أمير زكى بما أتاحه لنا من فصول وإن لم تكن كافية إلا أنه من المهم أن "تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"!

إعلان

إعلان

إعلان