لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الطريق إلى دمشق (٢): مرة واحد حمصي

الطريق إلى دمشق (٢): مرة واحد حمصي

ياسر الزيات
09:03 م الأربعاء 07 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أفضل السفر البري، وأعتبره متعة حقيقية. في البحر والجو، لا ترى شيئا ما إن تبتعد السفينة عن الأرض، أو تستقر الطائرة في ارتفاعها المحدد. أما في البر فكل شيء يتجدد كلما تقدمت إلى الأمام. اعتدت على الفرجة من النافذة، في السيارة أو القطار أو الأوتوبيس، واعتدت على مراقبة الأحياء والمباني. أصبح بإمكاني مثلا أن أتبين المباني الحكومية من السكنية، والصناعية من الرياضية، وهكذا. وعندما انطلق بنا الأوتوبيس من أمام مبنى كلية الفنون الجميلة في دمشق باتجاه صافيتا القريبة من ساحل المتوسط، بدأت ممارسة هواية المراقبة.

ما إن خرج الأوتوبيس من دمشق، حتى رأيت مبنى يشبه القلعة، له أسوار عالية، فانقبض قلبي. سألت الطالب الذي يجلس إلى جواري عن المبنى، فارتبك قليلا، قبل أن يهمس في أذني: "هذا واحد من أكبر السجون في سوريا".

هل يمكنني أن أقول له: "فرصة سعيدة"؟. تعارفنا على أي حال، وقال لي إنه من مدينة حمص التي سنمر عليها في طريقنا إلى صافيتا. قال لي: "أنا من المدينة التي يقولون عن أهلها النكت في سوريا". وقلت له: "وأنا من المدينة التي يقولون عنها النكت في مصر، من سوهاج في الصعيد". وتبادلنا النكات طوال الطريق، كل منا أخذ يحكي نكتة عن مدينته، وتعالت ضحكاتنا، فاجتذبت المزيد من الطلبة، وتعددت النكات، فتزايدت الضحكات، واتسعت دائرة التعارف.

من أعلى نقطة في جبل قاسيون، المطل على دمشق، الحاضن لها، بدت لي دمشق في المساء سجادة فارسية منسوجة بعناية فائقة، لتسر الناظرين. وفي الأوتوبيس، كان الطلبة يشكلون قطعة فسيفساء سورية تمثل التنوع الثقافي الكبير في المجتمع السوري. تعرفت على سنة وشيعة وأكراد وإسماعيليين وعلويين ودروز، ومسيحيين. وكنت قد اشتريت كتابا عن الطوائف المسيحية في سوريا لمؤلف يدعى سمير محمد علي، وعرفت منه أن في سوريا حوالي ١٣ طائفة مسيحية. بالمفهوم التقليدي للتنوع الثقافي، يمكن لهذا الأوتوبيس أن يتحول إلى ساحة معركة، لكن هذا لم يحدث، ولم ألحظ أي نوع من العداء الظاهر، اللهم إلا إشارات خفيفة لما يدل على اختلاف ثقافي ما: "هذه البنت فاتنة، ولكنها درزية". ماذا يعني هذا؟ أسأل، فأجاب: "يعني أنها لن تتزوج إلا درزيا للأسف".

لم يكن هناك ما يشير، بالنسبة لي على الأقل، إلى أن قطعة الفسيفساء هذه ستتحطم ذات يوم، أو أن السجادة الفارسية التي أحببتها ستتمزق قطعا صغيرة. طوال الطريق، كنت أحاول أن أشرب كل ما يمكنني من الجمال المحيط بي، جمال الطبيعة وجمال البشر. وعندما أتذكر كل ذلك الآن، لا يراودني أي شك في أن الضحكات التي تعالت طوال الطريق لا تزال مختبئة في مكان ما بين جبال سوريا، وأنها ستظهر لتملأ الهواء عندما تنتهي الحرب.

توقف الأوتوبيس في استراحة على مشارف حمص، وما إن دخلنا المطعم لنتناول وجبة خفيفة، حتى تعالت الموسيقى، وتشابكت الأيادي، أيادي الطلبة والطالبات، ليرقص الجميع الدبكة. وفضلت الفرجة، لكن يدا سحبتني لأدخل في الصف، أنا الذي لا يجيد حتى الرقص الصعيدي بالعصا، ويكتفي بشرب الموسيقى والرقص داخل نفسه.

بدت لي فكرة الرقص الجماعي معبرة كثيرا عن وحدة ثقافية ما داخل حالة التنوع الثقافي، بدت لي كالخيوط التي تشد عناصر السجادة، وتجعل النسيج قويا، أو المادة اللاصقة التي تجمع قطع الفسيفساء في إطار واحد، وتصنع جمالها النهائي المطلق.

عندما وصلنا إلى صافيتا، كانت اللافتات تكفي لتأكيد إحساسي بهذا التنوع الثقافي العظيم: "إسكندر محمد المحامي"، وكثير من الأسماء المربكة لأنك لا تستطيع أن تتبين منها ديانات أصحابها، ولا أعرف ما إذا كانت هذه الأسماء قد انهدمت هي الأخرى مع كل ما انهدم من الجنة السورية. ولا أعرف إذا ما كانت الفسيفساء السورية قابلة للترميم، لكنني أعرف أنني رأيت في سوريا محبة غير قابلة للهدم.

.. وللرحلة بقية.

إعلان

إعلان

إعلان