لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أغنية ديسباسيتو .. فلسفة لاتينية للاستمتاع بالحياة

أغنية ديسباسيتو .. فلسفة لاتينية للاستمتاع بالحياة

د. أحمد عبدالعال عمر
08:55 م الأحد 23 يوليه 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ عام مضى، حضرت بإحدى المؤسسات المهمة محاضرة لخبير كبير في مجال تخصصه وعمله، كان عمره على مشارف الستين، ويتمتع بطاقة وحيوية شديدين. وقد قام بشكل ملفت للانتباه بتكثيف وضغط المعلومات والخبرات التي يريد نقلها إلينا، والقاءها علينا بأداء متتابع سريع، لم نستطع معه تحصيل المعلومات المطلوبة وتدوين أهمها، فلم تتحقق لنا الفائدة العلمية والمهنية المستهدفة.

وقد أدراك هو ذلك، وشعر بخيبة أملنا، وعدم قدرتنا على متابعته والتحصيل منه، فأعتذر عن سرعة أداءه، لأن تلك طبيعته التي لم يستطع تغييرها، حتى أن زوجته طوال عمرها دائمة الشكوى منه، وتعتب عليه، لأنه يعمل كل شيء بضغط وسرعة كبيرين.

وقد قال ذلك بعفوية وطيبة شديدين، دون أن يُدرك أن بعض الخبثاء قد تذهب عقولهم بعيداً في تحليل تلك العبارة، واستخراج مضامينها المضمرة المتعلقة بعلاقته الخاصة بزوجته، التي كانت – ربما – تفتقد فيها للحميمية والهدوء والبطىء في الأداء المطلوبين في تلك اللحظات الخاصة، حتى يحصل كل طرف على مراده من الآخر، ويحدث لهما الاستمتاع والرضى المطلوب.

بعدها بشهور قليلة قرأت في الصحف خبر الوفاة المفاجئة لهذا الخبير، الذي كان يتمتع بصحة تامة، ولم يشكو من أي أمراض مزمنة؛ فترحمت عليه، وقلت في نفسي: تلك وفاة تليق به بعد حياة من الضغوط والحركة المستمرة، التي ربما استهلكته، وجعلتها ضحيتها في النهاية.

وأظن أن هذا الخبير بما عاش فيه، وبما انتهى إليه، لن يكون الأول ولا الأخير؛ فطبيعة الحياة التي نعيشها، فرضت على الإنسان المعاصر، أن يصبح " آلة " تتحرك بسرعة وبدون راحة في ميدان الحياة المهنية والعملية، من أجل تحقيق النجاح الوظيفي والأمان المالي الذي يحلم به.

وهو يقوم بذلك على نحو يستهلك عمره وصحته، دون أن يتوقف للاسترخاء والاستمتاع بالمتاح، ولو كان قليلاً. ولذا نراه يؤجل سعادته الخاصة، وسعادة المحيطين به، ليربطهما بتحقيق مستوى نجاح مادي معين، بعده سوف يتفرغ لعيش الحياة والاستمتاع.

والمفارقة المحزنة أنه في أغلب الأحيان يصل إلى ذلك المستوى، بعد أن يكون قد استنزف عمره وصحته في الحركة والعمل المستمر تحت ضغوط شديدة، وبعد أن يصبح إنساناً لا طاقة له على الاستمتاع بشىء.

وعندئذ يشعر بحسرة شديدة، ويقول في نفسه: ما قيمة ما أنا فيه الآن، وقد وصلت إليه وأنا مُنهك تماماً، وبلا قدرة على الاستمتاع به؟ ليتني عشت الحياة بهدوء أكثر، وإيقاع أبطىء، وحاولت الاستماع بالمتاح في مراحل سابقة من عمري، كنت أملك فيها القدرة على ذلك. 

وتلك الفلسفة الراقية في الحياة التي يصل إليها " الإنسان المعاصر المُهدر "، ولكن بعد فوت الآوان، هي ما تدعو إليه أغنية " ديسباسيتو ... DESPACITO "، للمغني البورتوريكي لويس فونسي، ومغني الراب دادي يانكي، وكتبت كلماتها الشاعرة البنمية إريكا إيندر. وهي الأغنية الأكثر نجاحاً وشهرة في العالم في الشهور الستة الماضية، والتي حققت في زمن قياسي أكثر من ملياري مشاهدة على موقع يوتيوب، وإنفعل بها وبكلماتها ملايين البشر في العالم، وساهمت في إنعاش اقتصاد بورتوريكو، نتيجة زيادة عدد السياح القادمين إليها بنسبة 45%.

وأظن أن السر الكامن خلف ذلك النجاح الكبير، أن تلك الأغنية المُبهجة الراقصة، القادمة من ثقافة أمريكية لاتينية تعشق البهجة والفرح والاستمتاع بالحياة، رغم ضعف الإمكانات المادية، قد حملت رسالة عظيمة للإنسان المعاصر المستنزف في ميادين الحياة العملية، مضمونها: أن السعادة لا تكمن كما قال أرسطو في العمل المستمر، وفي حياة الفكر، ولكن تكمن كما قال أفلاطون في نعمة الاكتمال بالآخر، وفي أن تعيش معه فرحة الزول عن الوجود.

ولهذا عليك أن تعيش الحياة بهدوء وإيقاع أقل سرعة، وكأنك ذاهب في رحلة بصحبة من تحب. وعليك أن تستمتع بكل مرحلة في حياتك بصرف النظر عن إمكاناتك، لتشعر برضى عن ذاتك ورحلتك في الحياة، لتقول في نهايتها بدون ندم أو جلد للذات: أشهد أني عشت واستمتعت بالحياة مع من أحب، بلا ضغوط، وفي هدوء وبطء.

إعلان

إعلان

إعلان