كل هذا التراب!!

عندما يتعلق الأمر بالتراب، فطبيعة الجغرافيا المصرية لم تكن رحيمة بنا. هناك بلاد تهطل فيها الأمطار باستمرار، فتثبت التربة وتمنعها من التحول إلى تراب متطاير، وتتغطى التربة بغطاء أخضر دائم من النباتات يزيد تثبيتها. في هذه البلاد يندر أن تجد ترابا متطايرا يسد الأنوف، ويعمي العيون، ويجعل المشهد العام كالحا، في حالة اتساخ دائم.

التربة الطينية في الوادي والدلتا هي مصدر أساسي للتراب الذي يملأ الجو، ومنها يأتي ذلك التراب الناعم الرمادي الداكن الذي نكنسه من منازلنا، ونمسحه من على الأسطح فيها. الصحاري المحيطة بنا من كل جانب تقذفنا بتراب صحراوي أصفر ناعم، يتحول وقت العواصف إلى حبات من الرمل الثقيل. جبل المقطم يقصف القاهرة بنوع خاص من التراب الجيري لا تجده إلا في العاصمة.

هذا هو ما قسمه الله لنا، ونحن راضون به، لدرجة أننا عشقنا التراب الذي أكرمتنا الطبيعة به، فقررنا أن نستزيد منه. كان بإمكاننا أن نزرع أحزمة من الشجر الأخضر حول المدن، تثبت التربة، وتقلل من كمية التراب القادم من الصحراء، لكننا لم نفعل، بل وأدخلنا الحزام الأخضر –حين قررنا إنشاءه- ضمن كردون المباني.

أينما ذهبت في مصر يصدم عينيك مشهد أكوام التراب والمخلفات المتراكمة. لا أتحدث عن القمامة والمخلفات اليومية للمنازل والمتاجر، فهذه قضية أخرى، لكنني أتحدث عن نواتج الحفر والهدم ومخلفات البناء المنتشرة في كل مكان. إذا كانت وجهتك إلى المناطق الزراعية في الوادي والدلتا، فمخلفات تطهير الترع والمصارف متروكة لتتراكم على جانبي المجاري المائية. المخلفات التي تكون طينية في أول الأمر، تجف تدريجيا، فتتحول إلى أكوام قبيحة المنظر من التراب المخلوط بمخلفات زراعية ومنزلية مختلفة، تبعث زخات من التراب الناعم مع كل نسمة هواء. النسيم في بلادنا ليس عليلا إلا بشكل مجازي، اللهم إلا إذا كان التراب المحمول مع النسيم هو سبب علته.

إذا كانت وجهتك ناحية المدن الجديدة، فسترى تراجيديات التراب وقد وصلت إلى ذروتها. في المدن الجديدة مبان يتم إنشاؤها، وطرق يتم شقها، ومرافق يتم مدها، وكل هذا ينتج كميات هائلة من نواتج الحفر ومخلفات البناء ستجدها ملقاة في مكان قريب من المباني الجديدة، لتصبح مصدرا إضافيا للتراب.

الطرق الجديدة الرائعة التي يتم حفرها في كل مكان تنتج كميات فلكية من نواتج الحفر، ستجدها ملقاة على جانبي الطريق. مشهد الصحراء الجميلة على جانبي الطرق الصحراوية تم تشويهه بأكوام من مخلفات الحفر. الأجزاء التي تم تطويرها من الطريق الدولي الساحلي أنتجت أكواما هائلة من الرمال وكسر الأسفلت القديم على الجانب القبلي للطريق، فتشوه المنظر، وزاد التراب.

السائقون الذين يتم التعاقد معهم لنقل مخلفات الهدم والبناء من داخل المدينة يتهربون من الذهاب إلى الأماكن البعيدة المخصصة لذلك، فيقومون بإلقائها في أي قطعة أرض خالية قريبة. الطرق التي لا تشهد سوى حركة محدودة نسبيا تتحول إلى مقالب لمخلفات الهدم والبناء، فيتم تقليص الطريق ذي الحارات الثلاث إلى حارة واحدة، ويضاف مصدر جديد إلى مصادر التراب الوفيرة التي حبانا الله به.  

هناك أسباب عديدة للعصبية والزهق والغضب وعدم الرضى المميز لمشاعر وأخلاق وسلوك المصريين، وإذا بحثنا عميقا، سنجد أن التراب المخيم على أجوائنا هو أحد أسباب ذلك. أزعم أن المصريين سيصبحون أقل غضبا وأكثر رضا وسعادة إذا تقلص عدد أكوام المخلفات التي يشاهدونها كل يوم، وإذا قلت كمية التراب التي تتخلل أنفساهم، ويمسحونها من على جباههم، ومن على الأسطح والأرضيات في منازلهم.