إعلان

"هذا هو الحب".. في الجونة السينمائى الثاني

"هذا هو الحب".. في الجونة السينمائى الثاني

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 06 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"أرجو أن تعذروني علي لغتي الإنجليزية السيئة. لكن ما أريد أن أقوله هو أنني سعيدة بحضوركم لمشاهدة فيلمي، الذي أتمني أن يعجبكم. إنه عن الحب. عن أفراد عائلتي".. بابتسامة جميلة وروح متواضعة نطقت المخرجة الفرنسية كلير بُرجيه بتلك الكلمات القليلة قبيل عرض فيلمها الروائي الأول الطويل "حب حقيقي" كما في عنوانه الإنجليزي Real Love أو "هذا هو الحب" كما في العنوان الأصلي الفرنسي "C’est Ca l’amour" والذي عُرض بقسم "أيام فينيسيا" بالمهرجان الإيطالي العريق، ونال جائزة أفض فيلم بذلك القسم. لكني شاهدته بإحدى قاعات "سي سينما" في اليوم السابق علي الختام من مهرجان الجونة السينمائي الثاني من ٢٠ - ٢٨ سبتمبر الماضي إذ عُرض بالقسم الرسمي خارج المسابقة.

أسلوبية السرد
يعتمد أسلوب السرد في سيناريو الفيلم علي المزج بين الوثائقي بالروائي بشكل غامض وملتبس لكنه مشغولة بجمالية سردية إبداعية تلقائية حتى يكاد المرء لا يُدرك أو قد لا ينتبه لتلك الاعترافات الواقعية من أصحابها.

كتبت المخرجة السيناريو بنفسها، ووفق تصريحها أن الشريط عن عائلتها. بعد المشاهدة يتضح للمرء أنه ليس فقط عن عائلتها، لكنه يتضمن تجارب آخرين، قد تبدو تلك التجارب والاعترافات القصيرة هامشية لكنها تعمق الأشياء وتكمل شذرات اللوحة الإنسانية لصانعة العمل، فتكتمل فسيفساء سينمائية نشعر معها أنها تصلح للتعبير عن عائلات كثيرة.

في ٩٨ دقيقة، فقط، نعيش تجربة ذاتية، شديدة الخصوصية، والصدق، والحميمية جعلت كثير ممن كانوا بقاعة العرض السينمائي يتأثرون وتدمع عيونهم. تجربة تشي تفاصيلها بأنه يصعب كثيرا أن يكتب رجل هذه التجربة المشحونة بالعواطف والتفاصيل المرهفة في حساسيتها. عندما هبطت التترات وأضاءت أنوار القاعة نهضت من موقعي للخروج سريعاً، لا أريد لأحد أن يكسر تلك الحالة النفسية والذهنية الجميلة التي منحني الفيلم إياها، فلمحت على اليسار وأنا في طريقي إلي الباب الزميلة العزيزة هدى إبراهيم تبتسم بتأثر شديد هي الأخرى قائلة: "متى نصنع أفلاماً بمثل هذا الجمال؟"

منابع للجمال
والجمال هنا منبعه قدرة وحساسية المخرجة في رصد مشاعر الوحدة القاسية، والفقدان لمن نحب، الفقدان الناجم عن قرارهم بالرحيل وتجربة حياة أخرى بعيدا عنا. الجمال منبعه قدرتها على رصد التوتر - خصوصا عند الأب والطفلة - الناجم عن تلك المشاعر بالفقدان، حساسيتها في رصد مشاعر التوتر وهي تتحرك في شتى الاتجاهات المؤلمة والعشوائية والمؤذية أحياناً، التوتر الذي يتم تنفيسه لا إرادياً بطريقة جارحة للأقربين منا في بعض الأوقات، التوتر الذي يدفعنا لارتكاب الحماقات ضد أرواحنا قبل الآخرين، التوتر الذي - مع افتقاد الخبرة - قد يجعلنا لا ندرك تلاعب الآخرين بمشاعرنا، فيُوقعنا في شباك التجارب التي تترك ندوباً علي الروح.

هنا، تتناول المخرجة الاضطرابات التي أحاطت بعائلتها عندما قررت والدتها فجأة عدم إكمال الحياة مع الوالد، متخذة قرار بالابتعاد لبعض الوقت عن البيت. رغم محاولات الزوج لإرضائها، كان القرار حاسماً صارما، وبدا أن لاشيء سوف يثنيها عن عزمها. فنسمع الزوج يقول لها برقة واستعطاف: "خذي وقتك. استريحي من كل هذا الضغط، أعيدي التفكير. سنكون في انتظارك. إننا نحبك."

تفهم الجانب السيكولوجي
فجأة، بين عشية وضحاها يجد الزوج نفسه مسئولا عن نفسه، وبيته، والأخطر عن ابنتيه اللتين لم يكن يُدرك مدي الحرية التي منحتها لهما الأم ليتحملا المسؤولية، تلك الحرية التي أفزعته، وجعلته قلقاً متوترا بل مذعوراً؛ فإحداهما شابة مستقلة تبدو مشاكلها أقل، لكن الثانية لا تزال علي أعتاب المراهقة، وتنزلق بسهولة لغواية فتاة تسحبها إلي أرض التلامس والقبلات كأنه تعويض عن غياب الأم المفاجئ. إنها زميلة لها في الفصل لكن تبدو أكثر منها خبرة ومرواغة، ولاحقاً تعترف أنها كانت تتسلي، وتريد قضاء وقت ممتع ليس أكثر، بينما الابنة المراهقة تتعلق بها، خصوصا أن ذلك حدث في لحظة اختفاء الأم بحنانها ودفئها ورعايتها رغم أنها كانت تمنحهما استقلالا كبيراً.

جانب كبير من نجاح أسلوبية السرد بفيلم "هذا هو الحب" هو قدرة مؤلفته كلير بُرجيه على إدراك الجانب النفسي للشخصيات، بتصرفاتها وتقلباتها، ومشاعرها، وتطويرها وتنميتها كل وفق طبيعتها، ووفق احتياجاتها العاطفية التي تقود أية تصرفات معينة. فعندما يُضَّيق الأب الخناق علي طفلته خوفاً عليها، نتفهم لماذا تضع له ابنته في الشاي مادة مخدرة أخذتها من أحد الشباب المدعوين في حفل عيد ميلاد أختها. بقلب قاس غير متردد تضع قطعة المخدر بأكملها، فتزيد نبضات قلب الأب، ويتعرق، ونشعر أنه أصبح في حاله صحية خطيرة. الابنة ترتعب وتتصل هاتفيا بأختها وتعترف بذلك. رغبتها في أذية الأب كان مقصدها استعادة الأم واهتمامها ورعايتها، تلك الأم التي اختارت حياة جديدة وشريكاً جديداً.

قد تبدو الحكاية عادية في سردها وتفاصيلها ربما باستثناء تفاصيل قليلة، كجريمة الابنة، واعتراف الزوج في بروفة إحدى المسرحيات - الجماعية التي تنهض علي مشاركة أعضائها - أنه يحب زوجته وأنه كان يتعامل معها بشكل سيء، وأنه وافق علي أداء هذا الدور لكي يقول لها أنه يحبها. الزوجة موجودة في أجواء هذه البروفات وتسمع كلمات الزوج بدون تأثر.

العنوان الفرنسي
لكن، ومع ذلك، والمؤكد أنه فيلم مختلف ومؤثر، بتصويره، بزوايا الكاميرا التي تعتمد على لقطات مقربة للوجوه فتلتقط دخائلهم بشكل لافت في جماله وشفافيته، خصوصا نظرات الطفلة في لقطات عديدة، نظرات تعبر عن ممثلة موهوبة تماهت مع الشخصية وأدركت حالتها النفسية تماماً. أما الأب والذي قام بدوره الممثل والمخرج والمؤلف البلجيكي بولي لانرز والذي يستحق جائزة عن رقته وصدق مشاعره التي نتواصل معها عبر نظراته وحركات جسده القليلة، رغم قلة الحوار في أجزاء عديدة ومفاصل عاطفية غير قليلة، فالعيون كانت تقول أشياء كثيرة عن الحب من دون كلمات.

وأخيراً، أري أن العنوان الفرنسي أفضل من الإنجليزي وأكثر قوة تعبيرية، فالعنوان الإنجليزي جاء مجرداً من أداه التعريف، وكأنه أي حب، كما أن العنوان ليس به ميزة أو خصوصية ما. أما العنوان الفرنسي "هذا هو الحب" فيُمكن القول أنه يحتمل مستويين من التعبير؛ في مستواه الأول يعبر عن شخصية الأب وتفانيه، ومحاولاته مع زوجته كي يقول لها أنه يحبها، وأنه كان مخطئ في التعامل معها، وأنه نادم، وهو ما يُؤكده بجميع تصرفاته مع بناته، وفي محاولاته للحفاظ علي بيته، وفي ذات الوقت استعادة حبيبته، وعدم استسلامه.

وفي مستواه الثاني الأبعد والأكثر عمقاً، والذي يطرح - عبر أحداثه وتطور شخصياته - تساؤلاً ضمنياً غير منطوق؛ هل الحب هو أن يبقي الزوجين معاً ليكملا حياتهما رغم أن أحدهما لم يعد قادرا على مواصلة هذه الشراكة، ويرغب في البدء مع شريك آخر جديد ينجذب إليه ويتجاوب معه، بكل توابع ذلك من تأثير - حتى وإن كان غير مقصود - على الأبناء والبنات؟!
هل التضحية هنا تحمل هذا المعني من الحب؟ أم أن الحب هو عدم الأنانية وتحمل الفقدان، والسماح للآخر بأن يسلك الطريق الذي اختاره، وإعادة بناء وترتيب حياتنا بشكل جديد مهما تحملنا من ألم ومعاناة؟ أيهما يكون هو الحب الذي يجب أن يكون؟!

إعلان

إعلان

إعلان