لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

قصاصتان في جيب معطف قديم..

قصاصتان في جيب معطف قديم..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 14 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يوم مدرسي..
لمصباح ثلاثة أرغفة، واحد منها بالجبن الأبيض صباحا، وللرغيفين الآخرين رزق السماء، يمتلك مصباح وجها يضحك حتى تعتاد عليه وإن غضب لن تعرف أبدا إلا إذا لاحظت احمرار أذنه، وكثيرا ما يباغتك وأنت إلى جواره بأن يعرض أن يقتسم معك الرغيف والجبن، لن تستمر الحياة هكذا يا مصباح، كان علي أن أقول له هذا، وإلا سيفقد الولد بهجة كل شيء، تحليت بحكمة زائدة ومفتعلة وفعلت ذلك كثيرًا.

يختصني مصباح بأن يحكي لي أن أمه الأرملة تبدأ نهارها بتوزيع الأرغفة عليهم، الجميع متساوون ثلاثة أرغفة وقطعة جبن أبيض، أنظر متسائلا فيكمل: لا شيء آخر فقد عرفنا مع الوقت أن هذا كامل طعام اليوم فإن جد شيء كان مفاجأة حلوة وإن غاب عدنا إلى ما نعتاد عليه، أضع يدي على كتف ونمضي سويا وأردد ما صرت أتقن قوله وتعلمني إياه أمي: "ولا يهمك يا مصباح الدنيا جايه" كان قولي هو آخر طاقة حكمتي المفتعلة الملقنة في مواجهة ما لا أفهم، يهز رأسه غير مبال.

يذهب مصباح معنا إلى المدرسة الإعدادية التي تقع في أول سوق الخضار الكبير، هنا في فصول قديمة يجلس الجميع، ابن العامل وابن البائع وابن المهندس وابن المدرس وابن الصائغ وابن الطبيب وابن السيدة التي لا نعرف زوجها، ومعنا مصباح، ابن البائع يحضر لنا ما تيسر من فاكهة وابن الصائغ ألبوم صور من درج الأسرة، وابن الطبيب يأخذنا إلى عيادة والده الفارغة كل يوم أحد في الحصتين الفارغتين لتغيب مدرس العلوم المستمر فنشاهد التليفزيون الأبيض والأسود ونأكل ساندويتشاتنا معا، ونمنح التمورجي خمسة قروش فيصنع لنا الشاي ولا يخبر أباه، حتى إذا جاء وقت انتهاء مغادرة الطلاب للمدرسة مضينا.

لا يتأخر مصباح أبدا عن المدرسة، ويمضي مسرعًا حين ينتهي اليوم الدراسي ويتركنا نتسكع، حتى إذا ألححنا عليه انتظر متمهلا وشاركنا قليلا حتى يفاجئنا غيابه، في البيت الذي يشيدون طابقا جديدا فيه، والبعيد عن المدرسة وحيث مضينا بعيدا في هذا اليوم، رأينا جميعا مصباح يحمل طوبا من العربة الواقفة وينقله إلى أمام المبنى، حاول ابن بائع الفاكهة أن ينادى عليه بصوت صائح فأسكتناه، لم يرد مصباح ولم نعرف هل سمع أم لا؟، كنا قد سرنا بعد ذلك متفرقين كل نحو منزله، وفي كل الأيام التي تلت ذلك غاب عنا مصباح.
تلك اللحظة..

لم يعد باقيا من الأغنية سوى صدى مقطعها الأجمل "راحت القطة مخربشة إيده لما مسك ديلها وآدي جزاة اللي ما يسمعش كلمه ماما تقولها" والذي مضى زمنا "لازمة" حوار في كثير من كلامنا طلابا وشبابا، وحتى أتت تلك اللحظة التي رأيتك فيها يا محمد فوزي تقوم بجذب الطفلة الصغيرة الواجمة، المنتظمة في صف كومبارس أطفال الأغنية، حتى تلك اللحظة التي باغتتني حدتها، تلك الطفلة الصغيرة تماما لكنها تنتظر مرورك ليكتمل مشهدك، كم كنت عمليًا بلا ضفاف، حتى تلك اللحظة يا محمد فوزي كنت أحب الاستماع إلى "ذهب الليل وطلع الفجر".

مضيت زمنا أستغرق في فرادة المعنى وطزاجة الصوت حين تهل فجأة عبر الراديو فتصنع ذلك الجمال الخفي شدوًا، فأكرر معك "فات مدرسته ورمى كراسته وراح جر شكلها"، ومنتهيًا بحكمة الحياة للصغار والكبار "وآدى جزاة اللي ما يسمعش كلمه ماما تقولها"، هكذا كنت أصاحبك في الغناء في تلك المقاطع الفذة، حتى ذلك المشهد وتلك اللحظة، ثم كل هؤلاء الأطفال في الأغنية كيف هم واجمون مرهقون ساكنون، لا أحد يصنع الضحك ممثلا سواكما أنت ومديحة يسري، كيف لم تهتم كاميرا المخرج بغير ابتسامتكما، تلك اللحظة إذ تتحرك من مجلسك في جوارها تاركًا طفلاً صغيرًا بين يديها، فتتحرك نحو الأطفال الواقفين كجزء من مشهد الأغنية، تبدأ بمداعبة أحدهم بتسرع في خده مواصلاً أداء ما تعرف من نص مكتوب، وتتابع التحرك وسط وجوم طفولي مصطفٍ كساحة انتظار ملول، ثم تذهب إلى الطفلة الصغيرة تبدأ بسحبها فتثبت في مكانها، فتزيد مساحة جذبك حتى يمتد فضاء قماش الفستان إلى نهايته في اتجاهك، ثم تصنع ما يشبه أنك تغني لها، وحين تترك يدك فستانها تنصرف الطفلة عنك في اتجاه آخر، كأنها لا تريد أن تواصل النظر نحوكما.

حتى أدركتني تلك اللحظة، صرت من حينها لا أحب أن أستمع إلى هذه الأغنية، وحين أعدت تأمل مفتتح الأغنية كان بائع البالونات الذي تم بناء ملامح وجهه ليكون شبيها بشارلي شابلن، يمشى مهدودا رتيبا وربما أيضا حزينا، وكانت جملة لحن المفتتح بالأكورديون كذلك واضحة الشجن مرهقة، وانتهت بتبعثر الأطفال في فضاء، حتى تلك اللحظة يا أستاذ محمد.

إعلان

إعلان

إعلان