لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

هدير الحجر... التفاصيل السرية لمعركة إنقاذ الآثار

هدير الحجر... التفاصيل السرية لمعركة إنقاذ الآثار

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 19 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قبل شهور قرأت كتاب "الآثار: شفرة الماضي.. اللغز والحل" للدكتور خالد عزب، والذي ينطلق فيه من أن علم الآثار يرمي إلى الحفاظ على المكتشفات التي تعود للماضي السحيق، وكذلك الماضي القريب، بالكشف عنها، وحفظها، لكن حدوده لا تقف عند ذلك، بل تتجاوزه إلى محاولة فهم الإنسان وتطور معرفته، وبذا يكون هو العلم الذي يساعدنا في الإجابة عن سؤال: كيف كنا؟ وما الذي أصبحنا فيه الآن؟

وإذا كان صاحب الكتاب المشار إليه قد حاول أن يفك بعض أسرار الماضي عبر دراسة ما خلفه الأقدمون من أثر، فإن قضية الآثار في الواقع المعيش لا تقف عند حدود هذه الرؤية العلمية، التي تهم الخاصة، وتنبو عنها، أو تهجرها إلى عالم يعج بالخرافات والمغامرات والجنوح والجموح والفتاوى والأقاويل والتصرفات العرجاء.

فربط الآثار بالأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان والحضارات لا يشغل أولئك الذين يتخذون منها تجارة رائجة، أو مجرد وسيلة لحيازة مناصب بزعم رعاية ما تركه لنا الأولون من آثار، وتحصيل صيت بدعوى فهم تاريخ كل قطعة فيها، سواء كانت حجرا منقوشا عليه، أو مومياء ممددة في صمت، أو مسلات مشرعة في اتجاه الفضاء.

وقد يكون بوسع كاتب أو محقق صحفي، أو حتى متتبع يلهث وراء أخبار الآثار، أن يعرف بعض ما يتم ترتيبه من أنشطة رسمية حول هذا المسار المهم في حياة مصر، على وجه الخصوص، فإن المتواري والمخفي والمغيب عن عمد من مثل هذه الأخبار، يبدو أعرض وأعمق وأشد مراسا وأقوى تأثيرا مما نتصور. فلا تكاد تمر ساعة واحدة إلا ويكون هناك نبش في مكان ما بحثا عن آثار، بأيدي محترفين وعرافين وهواة. ودخل فلاحون أوجعهم الفقر على الدرب بعد أن أوحى إليهم عرافون ومغامرون بأن بيوتهم تنتصب جدرانها الخفيضة فوق كنوز أثرية مطمورة.

وهناك كتاب آخر قرأته عن الآثار، تعامل مع أسرار من نوع آخر، هي الأكثر حضورا في النقاش الدائر حول آثارنا، وكل ما يأتي في ركابه من إطلاق الشائعات، وتبادل الاتهامات، وتداول الادعاءات، والمحاولات التي لا تنتهي من أهل الصحافة والساسة ورجال الاقتصاد، وحتى الكثير من عموم الناس، في سبيل إجلاء الغموض الذي يحيط بهذا العالم المفعم بسحر حكايات تغذي نهم الناس إلى الثروة الطائلة، والعمر المديد.

هذا الكتاب عنوانه "هدير الحجر .. التفاصيل السرية لمعركة إنقاذ الآثار" ومؤلفه هو الكاتب الصحفي الأستاذ إيهاب الحضري، الذي حاز خبرة عميقة في ملف، مستغلق على أفهام الكثيرين، خلال تغطيته لأنشطة وفعاليات مؤسسات تقوم على إدارة آثارنا، وترتيب كل ما يخصها من ترويج وتسويق واكتشاف وتعزيز، وتنتج كل ما يشوب هذه المراحل من فساد وإفساد، وما يتخللها من صراع ضار بين المسؤولين عن آثار مصر، الفرعونية والإسلامية والمسيحية، المدفون منها في بطون الأرض منذ آلاف السنين، والماثل أمام أعيننا في المتاحف.

وقد أتى المؤلف على كشف هذه الصراعات وألوان من الفساد، بأسلوب سلس متدفق، متوسلا في هذا بقدرته على السرد، التي قادته إلى تأليف مسرحية لليافعين عنوانها: "فراشات تبحث عن أجنحة" و كتاب لهم أيضا بعنوان: "أقمار المجموعة الشمسية"، فكان كتابه عن الآثار أشبه بلوحات قصصية، ومشاهد سردية، وكذلك قدرته على التحليل التي تجلت في كتابيه "اغتصاب الذاكرة .. الاستراتيجية الإسرائيلية لتهويد التاريخ" و"الفضاء البديل .. الممارسة السياسية والاجتماعية للشباب العربي على شبكة الإنترنت".

وقد تتعدى القصص التي تتناسل من عالم الآثار وحوله، ما ناقشه الكتاب من رؤى وأفكار منسابة في سرد يتتبع وقائع وأحداث ومواقف عايشها صاحبه، الذي كان يقوم بمهمته، مثلما ينبغي لصحفي متخصص أن يفعل، فالخفي من حكايات الآثار أكثر من المعلن، كما سبق القول، وهناك أسرار، يتداولها الناس شفاهة، لكن إقامة الدليل عليها يبدو غاية في الصعوبة، فكثير من المستندات ليست في متناول حتى المنشغلين والمهتمين بهذا الأمر، وهي مسألة يكشف عنها الكاتب غير مرة في ثنايا كتابه، حين يطلعنا على الصعوبات التي كانت تواجهه، والعراقيل التي تُلقى أمامه، لأن هناك من يتعمدون أن تبقى أشياء متوارية عن الأعين، حتى لو كانت شاخصة إليها بقوة جبارة.

ورغم أن الكاتب قد بذل جهدا فائقا في سبيل كشف بعض المستور، مثلما تدلنا على ذلك، المعارك التي خاضها، والوقائع التي رصدها، وقام بتحليلها، دون أن يتخلى عن استقلاله، وإخلاصه لمهمته ومهنته، فإن المسكوت عنه في هذه القضية يبقى دوما أكبر بكثير مما يتم الوصول إليه. فطالما تصل إلى الأسماع أخبار، لا ترد في الصحف، ولا يستطيع صحفيون أن يتناولونها، عن تهريب الآثار، الذي يجري في هذا البلد منذ زمن طويل، ويبدأ من عصابات صغيرة، لينتهي عند رؤوس كبيرة، وينتقل بين الطرفين بلا انقضاء، وكذلك عن أخطاء فادحة في الترميم يتم التغطية والتعمية عليها، وهي مسألة لا تقل سوءا عن التهريب والتخريب، ومثلها في السوء إهمال الآثار على نحو مروع، حتى وجدنا بيوتا أثرية تحولت في وقت من الأوقات إلى أوكار تباع فيها المخدرات، وأخرى صارت مقالب للقمامة، وثالثة تركت لأناس يقطنونها زمنا، دون أن يعرفوا قيمة الجدران التي يجلسون تحتها. وإذا كانت الدولة قد أنقذت بعض هذه الآثار مما آلت إليه، فإن بعضها لا يزال يعاني من إهمال لا تخطئه عين.

ولا يشغل هؤلاء الفسدة ما يضني الكاتب حين يربط الآثار بالهوية، ويقول في مطلع كتابه "ظلت الأثار تستحوذ على اهتمامي ضمن فضاء أوسع نسبيا هو التراث"، وقد برهن في سطور كتابه على أنه غيور على هذا الإرث الثقافي والحضاري، وجسور في الدفاع عنه، وشغوف بمعرفة الكثير مما يحيط به.

ومثل هذا الاهتمام، وذلك الشغف، يجب أن يمتد إلى كل مصري، ولن يتحقق هذا إلا بإقرار مادة تعليمية للآثار في مدارسنا وجامعاتنا، تتدرج في مستواها حسب كل مرحلة، إذ ليس من المستساغ أن يتم تدريس مادة "المصريات" في جامعات عديدة في الشرق والغرب، بينما يجهل شبابنا الكثير عن آثارنا، التي تحكي لنا جانبا عريضا وعميقا من تاريخ حضارتنا وثقافتنا، التي هي في قلب الحضارات على مر العصور.

إعلان

إعلان

إعلان