لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الشارع في قبضة "الفتوة"

الشارع في قبضة "الفتوة"

أمينة خيري
09:14 م الإثنين 23 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بينما إشارة المرور الإلكترونية تعمل يومًا آه وعشرة لأ، ولجنة المرور تدقق في رخص الآنسات والسيدات، والتكاتك المارقة والميكروباصات الطائشة و"الثمنايات" البائسة ترتع يمينًا ويسارًا، والرجل الستيني ممسك في خناق سائق التاكسي الأبيض العشريني الرافض شكلاً وموضوعًا تشغيل العداد "لأن مزاجه كده"، و"لأنه حر يفعل ما يشاء في حرم سيارته" (أينعم يقول "حرم سيارته")، وصاحب سلسلة السوبرماركت المنتشرة في عدد من أحياء الطبقة المتوسطة (سابقًا) البزرميط المسيطر عليها الغوغائيون والعشوائيون (حاليًا) يشطح بأسعار ما أنزل بها من سلطان على السلع الغذائية دون ضابط أو رابط أو رادع، إذ بالضيف البرلماني الزاعق يصدح بأعلى الصوت في استديو الأخبار، مؤكدًا أن "الدولة دولة قانون يا إخواننا".

إخواننا القابعون في مكان ما غير معلوم، والمفترض أنهم ذراع الدولة لتطبيق القانون على الكبير والصغير بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة، طال غيابهم، وحن الفؤاد إلى لقائهم، واشتاقت الألباب إلى عناقهم بعد ما أغلقوا أبوابهم بالضبة والمفتاح.

مفتاح الدولة وسر هيبتها هو القانون، وإذا غاب القانون ترهلت الدولة وتهلهلت وتفرتكت. ومن الدول ما يترهل بغياب العدل، أو يتهلهل بشيوع الفوضى، أو يتفرتك باقتتالات داخلية. وهناك ما يمكن تسميته بالدول الشبيهة بالأشجار "مخوخة" الجذع، حيث يقف الجذع وكأنه ثابت باسق فارع، لكنه في حقيقة الأمر شائخ بائس فارغ.

فراغ الدولة، أو بالأحرى تفريغها من مضمونها القائم على أساس تطبيق القانون، أمر لو تدرون عظيم. والعظمة هنا بمعناها التحذيري الدال على خطورة عظمى، وتهديد أعظم وأفدح. وهل هناك ما هو أفدح من أن يشعر المواطن بأنه حال تعرضه لبلطجة سائق أجرة، أو نصب تاجر، أو اعتداء جسدي أو لفظي من مواطن آخر، أو تعدٍ على ممتلكات، أو فرض رسوم أو جبايات تستقر في جيب من يحصلها فلا ملجأ له أو ملاذ؟

في دول أخرى يلوذ المواطن الضحية بالشرطي. وكم من عمل درامي أو تجربة شخصية في سفرية هنا أو هناك رأى فيها المصري وسمع العبارة الأشهر "سأتصل بالشرطة"؟ وهي عبارة لا تستخدم عادة للتهويش أو التشويش، لكنها تقال بناء على حق معروف منصوص عليه في دساتير العالم وقوانينه. هذا المواطن لا يقول "أنا ابن عم العميد فلان أو قريب اللواء علان وهاوريك" أو "هاطلع من هنا على الرقابة الإدارية وأتبلَّى عليك" مثلاً. كما أنه حتمًا لا يفاخر بأنه يعيش في دولة بلا قوانين أو حقوق مكفولة أو واجبات معروفة فيهدد بـ"هابعت لك إخواتي يقطعوك" أو "هامحيك من على وش الأرض" إلى آخر قاموس المفردات والعبارات المعروفة.

صحيح أن جانبًا مما يقال قد يكون بغرض التهويش، لكن صحيح أيضًا أن شعور المصري والمصرية بأنهما لا ظهير قانونياً يضمن حقهما بات شعوراً يقينياً.

تابعت جزءاً من حلقة على قناة "القاهرة والناس" تحدث فيها الضيف بفخر شديد عن رجولته الفذة وشهامته المفرطة إذ إنه أخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن أهل منطقته من البلطجية والخارجين على القانون. ووسط إعجاب المذيع بموقف المواطن الشجاع، ورغم أنه يفترض أن يكون الشعور بالإعجاب قد تسلل لي كذلك، إلا أنني ارتعبت رعباً شديداً وابتأست بؤساً رهيباً.

وسبب الرعب هو استعادة مشاهد روايات نجيب محفوظ حيث "فتوة الحتة" ولكن موديل 2018، حيث منظومة المجتمع الأخلاقية والسلوكية في مهب ريح تدهور التعليم وانتشار التدين المبني على مظهر غارق في الالتزام، وجوهر غائص في الضياع. وأما البؤس فهو لأنني رأيت مخاوفي تتحقق وآمالي تتبعثر أمام عيني. فلا أحد يتزحزح قيد أنملة لاستعادة قبضة القانون في الشارع (رغم أنه أصلاً كان يعاني عوارًا لكن على الأقل كان موجودًا ولم يكن قد مات إكلينيكيًا)، ولا بوادر تؤشر بأن الشارع سيخرج سالماً من قبضة البلطجية والفوضوية والعشوائية.

إعلان

إعلان

إعلان