- إختر إسم الكاتب
- محمد مكاوي
- علاء الغطريفي
- كريم رمزي
- بسمة السباعي
- مجدي الجلاد
- د. جمال عبد الجواد
- محمد جاد
- د. هشام عطية عبد المقصود
- ميلاد زكريا
- فريد إدوار
- د. أحمد عبدالعال عمر
- د. إيمان رجب
- أمينة خيري
- أحمد الشمسي
- د. عبد الهادى محمد عبد الهادى
- أشرف جهاد
- ياسر الزيات
- كريم سعيد
- محمد مهدي حسين
- محمد جمعة
- أحمد جبريل
- د. عبد المنعم المشاط
- عبد الرحمن شلبي
- د. سعيد اللاوندى
- بهاء حجازي
- د. ياسر ثابت
- د. عمار علي حسن
- عصام بدوى
- عادل نعمان
- علاء المطيري
- د. عبد الخالق فاروق
- خيري حسن
- مجدي الحفناوي
- د. براءة جاسم
- عصام فاروق
- د. غادة موسى
- أحمد عبدالرؤوف
- د. أمل الجمل
- خليل العوامي
- د. إبراهيم مجدي
- عبدالله حسن
- محمد الصباغ
- د. معتز بالله عبد الفتاح
- محمد كمال
- حسام زايد
- محمود الورداني
- أحمد الجزار
- د. سامر يوسف
- محمد سمير فريد
- لميس الحديدي
- حسين عبد القادر
- د.محمد فتحي
- ريهام فؤاد الحداد
- د. طارق عباس
- جمال طه
- د.سامي عبد العزيز
- إيناس عثمان
- د. صباح الحكيم
- أحمد الشيخ *
- محمد حنفي نصر
- أحمد الشيخ
- ضياء مصطفى
- عبدالله حسن
- د. محمد عبد الباسط عيد
- بشير حسن
- سارة فوزي
- عمرو المنير
- سامية عايش
- د. إياد حرفوش
- أسامة عبد الفتاح
- نبيل عمر
- مديحة عاشور
- محمد مصطفى
- د. هاني نسيره
- تامر المهدي
- إبراهيم علي
- أسامة عبد الفتاح
- محمود رضوان
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
"شيد قصورك ع المزارع/ من كدنا وعمل إيدينا/ والخمارات جنب المصانع/ والسجن مطرح الجنينة/ وأطلق كلابك في الشوارع/ واقفل زنازينك علينا"!.
كانت تلك الكلمات التي كتبها الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم في معتقل القناطر، غرب القاهرة عام 1973. تهز حيطان شارع كريم الدولة بوسط القاهرة في ذلك المساء الربيعي الثوري العنيف من عام 2000.
في ذلك المساء، ذهبت تحت ظلامه المتخفي، وراء أشجار الأمل، لحضور احتفالية حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، بذكرى رحيل الشيخ إمام. على مدخل الشارع سيارات أمن مركزي مدججة بالسلاح، وعساكر وضباط واقفون وجالسون، لا يستمعون ـ وربما لا يعرفون ـ أغاني الشيخ أمام.
الإضاءة بالشارع خافتة، وعلى الرصيف ـ مقابل مبنى الحزب ـ يجلس مجموعة من الفقراء في انتظار شيء ما. خطوة بعد خطوة أقترب من المقر. ولحظة بعد لحظة، تتسرب إلى أذنيّ أصوات الحناجر القوية، بالهتافات الثورية صارخة (جيفارا مات.. جيفارا مات. دا منطق العصر السعيد/ عصر الزنوج والأمريكان/ الكلمة للنار والحديد/ والعدل أخرس أو جبان/ صرخة جيفارا يا عبيد/ في أي موطن أو مكان/ جيفارا مات).
في الوقت الذي وصلت فيه الفرقة إلى نهاية أغنية "جيفارا مات"، كنت أنا قد وصلت إلى مدخل الحزب. على الناحية الأخرى رأيت سيدة مسنة جالسة، ترتدي ملابس سوداء. وعيونها ذائغة، وذهنها متوتر؛ غير عابئة بجيفارا، حياً كان أو ميتاً.
سمعتها تسأل رجلا عجوزا يقف بجوارها: "هل تعرف من هو جيفارا الذي يتغنون باسمه الناس اللي فوق"؟ هز رأسه، وقال لها: أنا أعرف الباشا فقط، وجئت إلى هنا من أجله! تدخلت أنا في الحديث قبل صعودي للمقر، وسألته: ومن هو هذا الباشا الذي تقصده؟
نظرت السيدة ناحيتي بتوجس وريبة لا أعرف لماذا؟ ولم تتكلم! أما هو فرد بحدة وغضب قائلاً: "خالد باشا محيي الدين.. هو فيه غيره.. ربنا يكرمه". صعدت بسرعة درجات السلم، وأنا ما زلت أستمع إلى الأغاني التي تلهب الحماس، وتشعرك بثورة للتغيير قادمة على أبواب المدينة. القاعة تمتلئ بالبشر، الموسيقى تختلط بسحابات الدخان المتطاير. والكل يغنى: "يللي فتحت البتاع/ فتحك على مقفول/ لأن أصل البتاع/ واصل على موصول/ فأي شيء في البتاع/ الناس تشوف عىي طول/ والناس تموت في البتاع/ فيبقي مين مسؤول"؟
بعد دقائق دخل إلى القاعة وسط حالة من التصفيق الحاد التي تصل إلى حد الهوس، الزعيم خالد محيي الدين (1922 ـ 2018) وألقي كلمة قصيرة، ألهبت مشاعر الحضور. ثم غادر المكان في عجلة من أمره. القاعة تواصل هتافها وأغانيها الثورية بين الجدران المحاصرة بقوات الشرطة. خرجت بسرعة خلفه أزاحم من حوله، في محاولة للوصول إليه، لأتحدث معه عن أزمة مارس 1954 التي غيرت مصير مصر والأمة العربية كافة. كنت أريد أن أعرف.. هل بالفعل دبر الرئيس جمال عبدالناصر الانفجارات التي حدثت في شوارع القاهرة، لإثارة مخاوف الناس من الديمقراطية التي كان يطالب هو بها.. في البداية لم أتمكن- بطبيعة الحال- من الوصول إليه، حيث كان أعضاء الحزب يفرضون حوله سياجا بشرياً صلباً. واصلت النزول مهرولاً خلفه، حيث تقف سيارته بالخارج. الآن يخرج من البوابة الرئيسية للحزب. يسلم بحميمية شديدة على مودعيه. السائق يجهز السيارة للتحرك. أحد الأشخاص يفتح له الباب. هو يستعد للجلوس على المقعد الخلفي. لكن قبل أن يضع قدمه اليسرى في مكانها، كان الفقراء والبسطاء الذين كانوا في انتظاره قد تحركوا بسرعة خاطفة إليه. ينادون عليه بكلمات مهزومة ومكسورة قائلين: "وحشتنا يا باشا"، وهو يبتسم ويهز رأسه! "ربنا لا يحرمنا منك يا باشا"! وهو يضع يده في جيبه ويخرج ما فيه، ويوزع عليهم ما تجود به نفسه، الواحد تلو الآخر. هم ما زالوا ينادونه: "ربنا يطول في عمرك يا باشا". في هذه اللحظة تجرأت وتقدمت إليه، حتى اقتربت منه، وسط هؤلاء البسطاء. وبخجل وخوف- فهذا خالد محيي الدين أحد أبرز قادة ثورة 23 يوليو 1952ـ قلت له: ألم تقومواـ كضباط أحرارـ بالحركة أو الثورة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفساد، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وطرد الاحتلال، وإنهاء الفوارق الطبقية؛ وبالتالي إنهاء عصر الباشوات؟!
هز رأسه وعلى وجهه ابتسامة خفيفة، وهو مازال يقف بجوار باب السيارة دون أن يتكلم. فشجعني صمته المهذب على أن أقول: إذن كيف يناديك هؤلاء البسطاء الذين من المفترض أن ثورة يوليو قامت من أجلهم بلقب "باشا"؟ تحولت ابتسامته إلى ضحكة خفيفة، ثم قال وهو يضع قدمه في السيارة: قل لهم إنني خالد محيي الدين. أنا "مش باشا"! ثم جلس على مقعده، وانطلق السائق بسرعة وسط دعوات الفقراء الذين مازالوا في المكان وهم يدعون له قائلين: "ربنا يطول في عمرك يا باشا".
أما أنا فلم أصعد للاحتفالية، واتخذت طريقي لميدان طلعت حرب، للجلوس على مقهى زهرة البستان. وخلفي مازالت أغاني الشيخ إمام تهز الفضاء الهاربة إليه عبر النوافذ: "هما مين/ واحنا مين/ هما الأمرا والسلاطين/ هما بيلبسوا آخر موضة/ واحنا بنسكن سبعة في أوضة/ هما بياكلوا حمام وفراخ/ واحنا الفول دوخنا وداخ/ همه مين واحنا مين".
وصلت للمقهى، وجلست بجوار صديقي يساري، كان في طريقه للحفل. حدثته عما دار بيني وبين السيد خالد محيي الدين على باب الحزب قبل قليل. كان يستمع وهو يدخن سيجارته، ويحتسي فنجان قهوته، ثم قال: كلمة "الباشا" بمفهومها الرمزي والفعلي لم تسقط بسقوط طبقة الباشوات بعد ثورة 23 يوليو؛ لأن هؤلاء وغيرهم لم تكن لديهم إرادة حقيقية في إسقاط الفوارق الطبقية بين أبناء الشعب ـ باستثناء يوسف صديق وخالد محيي الدين ومحمد نجيب ـ والدليل أنك بعد مرور ما يقرب من 48 سنة على ثورة يوليو، التي قامت للقضاء على طبقة الباشوات. اليوم نري بدل الباشا مئات الباشوات. وفي المقابل ستجد الفقراء في زيادة مستمرة.
بعد دقائق طلب مني صديقي العودة لمواصلة الاستماع لاحتفالية الشيخ إمام . في المسافة من المقهى للحزب قلت له: عندما تعود إلي سطور خالد محيي الدين التي كتبها في مذكراته التي كان عنوانها "الآن.. أتكلم"، ستعرف من خلالها، وبصدق ووطنية، ونبل.. كيف سارت الأمور في مصر منذ الإطاحة بالملك فاروق واستيلاء ضباط يوليو على الحكم. ولماذا رفضوا العودة لثكنات الجيش وإعلاء مبدأ الديمقراطية التي طالب بها خالد محيي الدين ودفع ثمنا باهظا من حريته بسبب قناعته بذلك. وسيصدمك بقوة، عندما تقرأ شهادته في المذكرات التي ذكر فيها: "انهمك عبدالناصر في تنفيذ خطته ـ الرافضة للديمقراطية ـ فحشد أكبر قدر من ضباط الجيش حوله، على أساس أن الديمقراطية خطر علي الثورة. وبدأ عن طريق "طعيمة" و"الطحاوى" في ترتيب اتصالات بقيادات عمال النقل العام بالقاهرة لترتيب إضراب عام شامل، يرفضون فيه الديمقراطية التي هي رجس من عمل الشيطان. وبالتالي تحدث أزمة وفوضي في البلاد. وقد حدث بالفعل ونجحت الخطة. ثم يقول: قال لي عبدالناصر بعد عودتي من المنفى بصراحة نادرة: "لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك.. وهذا لم يكلفني سوى أربعة آلاف جنيه!"، نظر لي صديقي وهو يبتسم في سخرية، وقال: هل رأيت شعبا في العالم يرفض الديمقراطية، ويخرج في مظاهرات لرفضها؟!
لم أرد عليه، لأننا كنا قد وصلنا إلى مبني حزب التجمع مرة أخرى وهناك قلت: لو لم يدفع عبدالناصر أربعة آلاف جنيه من جيبه أو من خزنة الدولة في ذلك الوقت، ليسقط الديمقراطية.. ربما ما كنا رأينا هؤلاء الفقراء يفترشون الطرقات، في انتظار نزول باشا جديد، ليهرولوا خلفه من أجل "كسرة" خبز يسدون بها جوع الأيام. هز صديقي رأسه وهو يودعني، وفي نفس اللحظة، أقبلت علينا السيدة العجوز، وسألته: "هل تعرف يا بْني من هو جيفارا اللي شغالين له غُنَا اس اللي فوق من المغرب"؟ نظر لي وهو يبتسم بسخرية وصعد مسرعاً. بادلته الابتسامة، وتركت المكان عائداً إلى شارع طلعت حرب في طريقي لمترو الانفاق. وفي ذهني ابتسامة خالد محيي الدين وسعة صدره وأنا أتحدث إليه، وهو يستمع بصبر وسعة أفق، خاصة وهو يقول لي: "قل لهم أنا خالد محيي الدين أنا "مش باشا".
أما السيدة، فعادت بهدوء، تحت الضوء الخافت في الشارع، واتخذت مكانها، وجلست على الرصيف، وعيونها معلقة بالسماء، في انتظار شي ما!.
منذ أيام، مات خالد محيي الدين. مات- كما قال الراحل أحمد فؤاد نجم عن جيفارا: "مات المناضل المثال/ يا ميت خسارة على الرجال".
إعلان