لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"نيوتن" المصري.. وشجاعة الاعتذار

"نيوتن" المصري.. وشجاعة الاعتذار

د. أمل الجمل
09:01 م السبت 09 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أتذكر أنني شعرت بعدم الارتياح، وبعض المبالغة، عندما قرأت ذات يوم مقالاً في العمود اليومي لـ"نيوتن" بجريدة المصري اليوم، يمتدح شركة مصر للطيران، ويعتذر لها لأنه لفترة من الزمن كان يُفضل عليها شركة طيران ألمانية مشهورة، ثم أخذ ينتقد هذه الأخيرة مُعددا أخطاءها في رحلته العلاجية الأخيرة.

شعرت بعدم الارتياح، وذلك رغم أنني أحرص على متابعة هذا الكاتب الكبير، وهذا الحرص مرجعه عدة أسباب: أولا قوة الأفكار التي يطرحها، ثم المنطق الذي يُناقش به أفكاره، خصوصاً الاقتصادية حتى لو اختلفت مع بعضها أحياناً. كنت أراها نواة أساسية يمكن البناء عليها لتحقيق نهضة اقتصادية حقيقية لبلدنا، كما أن أسلوبه وجُمله القصيرة، وخطابه التلغرافي جد، ورؤيته الواضحة تماماً تُعجبني، وتجذبني لمواصلة القراءة كأنه أحد أفراد العائلة يتسامر بهدوء، بود أثناء طرح أفكاره الثورية التي قد تبدو شديدة القسوة في بعض الأوقات.

مع ذلك بعد قراءة ذلك المقال شعرت بأن هناك بعضا - أو ربما كثيرا - من المبالغة في المقارنة بين الاثنتين، وأن هناك ترجيحاً - غير عادل - لصالح كفة ميزان شركة الطيران المصرية، خصوصا عندما ننفي وجود فارق بين درجة رجال الأعمال والدرجة السياحية على الطائرة الألمانية، لأني صحيح لم أختبر درجة رجال الأعمال على "الألمانية" سوى مرة واحدة قادني إليها الحظ وحده، وصحيح أن خبرتي مع "الألمانية" كانت مُرضية لي طوال رحلاتي معها على الدرجة السياحية، لكن تلك المرة الاستثنائية على درجة رجال الأعمال أكدت لي أنها مثل غيرها من شركات الطيران - التي استمتعت بسفري عليها، سواء على درجة رجال الأعمال، وأحيانا علي الدرجة الأولي عندما أسعدني الحظ بالمشاركة في عدد من ورشات العمل والمؤتمرات التي دُعيت إليها، وكذلك لجان التحكيم التي شاركت بها في عدد من المهرجانات السينمائية - تضع فروقاً في الخدمة بين الدرجتين، في مستوى جودة الطعام وأصنافه، وأسلوب تقديمه، في جودة المشروبات المقدمة وتنوعها، في المساحة المخصصة للكراسي، وإلا ما تفسير هذا الفرق في السعر بين الدرجتين؟

حقيبة شريف.. وتابوته

على صعيد مغاير كانت تجربتي مع "المصرية" غير جيدة بالمرة عبر سنوات عدة، مقارنة بأسعار وبمستوى الخدمة في الشركات المنافسة الأخرى، خصوصا طيران الإماراتية التي كنت أعتبر السفر علي متنها في حد ذاته متعة. وازداد الأمر بالنسبة لي سوءا مع ”المصرية“ خصوصا في ظل الارتفاع الجنوني للدولار أو بالأحرى مع انتحار الجنيه المصري وفقدان قيمته، وخصوصا يوم اضطررت لظروفٍ إلى نقل جثمان زوجي الروائي والطبيب والمناضل السياسي د. شريف حتاتة من ألمانيا. ففي ذلك اليوم ٢٢ مايو ٢٠١٧، وبعد مناشدة كثير من الأصدقاء والصديقات - داخل مصر وخارجها -للسفارة المصرية لتحقيق رغبتي في إعادة زوجي إلى تراب بلده، يومها بعد أن تواصل معي السفير والقنصل، وقدما واجب العزاء وأبديا استعدادهما للمساعدة في أي شيء، فشكرتهما، وقدرت ذلك لهما مكتفية برغبتي في إنجاز الأوراق ليعود سريعا لأرض الوطن، فاتصل بي الموظف المكلف بالقنصلية المصرية، هناك، وأخبرني أن السفر سيكون على متن مصر للطيران، ورشح لي رجلا لبنانياً يُدعى الحاج أحمد- يُطلقون عليه رجل التحنيط وهو ما يُعادل في ثقافتنا "الحانوتي" - ليقوم بكافة إجراءات التحنيط بعد أن يُنجز كافة الإجراءات الطبية، والقانونية، وهو أيضاً الذي قام بحجز مكان للجثمان بداخل التابوت علي متن رحلة مصر للطيران.

الموت والحرق، وربما خراب الديار

وصدقاً لا أعرف تحديداً كم كانت تكلفة النقل على الطائرة لأن الحانوتي بعد أن أنجز مهمته حدد تكاليف العملية بأكملها وأخذ المبلغ كاملا ألفين وخمسمائة يورو دفعتها من حر مال شريف حتاتة الذي كان دوما يُفكر في الغد ويعمل حسابه ألف مرة، ويعيش حياة بسيطة لكنها صحية وممتعة وغير مكلفة، بل أدركت بعد غيابه أنه لم يترك أمراً لم يُفكر فيه حتى يعفيني من التعرض لأي مشكلة أو مأزق بعد رحيله، حتى النعي الخاص به كتبه قبل رحيله ربما بعامين أو ثلاثة، حتى الأوراق التي قد أحتاج إليها لإتمام إجراءات الدفن، وإنهاء كافة الإجراءات التي تحفظ لي حقوقي كان قد صورها ورتبها في مظروف خاص بحقيبته، حتى أنه قد طلب من بعض أصدقائه البحث عن محامي يساعدني فيما أحتاج إليه بعد غيابه، وهو أمر ليس بغريب على إنسان بأخلاق وشخصية لها تاريخ نضالي وطني محترم ومشرف مثل شريف حتاتة.

في ذلك اليوم شعرت أن الإنسان المصري الذي لا يمتلك أموالاً كافية وتوافيه المنية بالخارج لن يجد مكاناً يأوي جسده، لارتفاع أسعار إيجار المقابر بالخارج، فهو إيجار مؤقت لعدة سنوات فقط، ولن يستطيع أن يوفر مصاريف وتكاليف العودة إلي مصر، وربما لذلك سيكون مصيره الحرق، يعني مصيره سيكون واحدًا من أثنين؛ إما موت وخراب ديار، أو الموت والحرق في الغربة. قلت لنفسي الحمد لله الذي عافانا وجعلنا قادرين على العودة لوطننا بكرامتنا.

التفاوض والاستغلال

يومها، أيضاً، قررت التخلي عن تذكرة العودة المحجوزة مسبقا لنا علي الشركة الأردنية، فقد كنت أريد العودة بصحبة زوجي علي مصر للطيران، لا أريد أن أتركه يعود بمفرده رغم وجود عدد من الأهل والأصدقاء المخلصين الأوفياء في انتظاره بمطار القاهرة. لكنني فوجئت بالموظف في مكتب الحجز بفرانكفورت يخبرني بأن المقعد المتاح علي الدرجة السياحية ثمنه ٥٠٠ يورو، قلت في دهشة: ”٥٠٠ يورو ثمن تذكرة واحدة في اتجاه واحد فقط.. أي تقريبا عشرة آلاف جنيه.“ فأضاف الموظف أن الكرسي في مكان ضيق، فالتذاكر المتبقية محدودة جدا، وإن لم أُسرع في الحجز ربما سيتم بيعه علي الإنترنت. استسلمت وبينما أستخرج جواز سفري لإتمام الحجز أخبرته أن معي ثلاث حقائب من بينها حقيبة زوجي - إذ قضينا قرابة شهرين في رحلة العلاج وكان يصعب عليَّ التخلي عن أشيائه مهما كلفني الأمر- فكان رد الموظف: ”لابد أن أدفع تكلفة إضافية لشحن الحقيبة الثالثة.“ وظل الرد ثابتاً حتى بعد أن أخبرته أنها تخص زوجي وأن جثمانه عائد علي نفس الطائرة.

لا أحب الاستغلال في أي من أشكاله، ولا أحب أن أخضع له أبدا، أبذل الأشياء برضاي ورغبتي، بحب كبير، لكن عندما أشعر بالاستغلال أو الاستغفال أتحول لكائن آخر. وقفت أتأمل الموقف. يصعب عليَّ التخلي عن أشياء شريف وملابسه مهما كلفني الأمر. مستحيل أن أتركها أو أفرط فيها. ذات يوم قال لي السائق: ”يا أستاذة إدي الملابس لحد يستفيد بها، كلمي الجمعية الخيرية ”الفلانية“ تيجي تاخد الحاجات دي، وتفضي لك المكان من الزحمة لأن الشقة صغيرة وضيقة.“ فقلت له: ”ومَنْ قال إني عاوزة أفضي المكان. المكان ده ملك الدكتور شريف وسيظل ملكه، وستظل أشياؤه إلي أن يقدرني ربنا على إنشاء متحف أو أرشيف يضم أشياءه.“ فصمت الرجل عن هذا الموضوع للأبد.

في شقة كبيرة لها كثير من الدهاليز بقلب العمارة الفخمة المطلة علي ميدان محطة القطار الرئيسية بفرانكفورت كنت لا أزال أقف أمام موظف مصر للطيران، وعقلي يعمل في تحدٍ. قلت له: يعني عاوز ٦٢٥ يورو مصاريف شحن وتذكرة في اتجاه واحد. طيب، لدي تذكرة عودة على شركة طيران أردنية - تمنحني نفس الوزن - كان سيحين موعدها بعد ستة أيام إذ كان من المفترض أن نعود سوياً - زوجي وأنا - على نفس الطائرة لكن رفيقي قرر فجأة - بعد صمود طويل - الترجل والعودة باكرًا. إذن، أعتقد الآن أنه من الأفضل أن أذهب إلي مكتب الطيران الأردني وأحاول تبكيرها للغد. ”شكرا لحضرتك“. المفاجأة أن الموظف في تلك اللحظة تراجع وطلب أن نتفاوض بشأن الحقيبة، وأنا لم يُعجبني هذا الأسلوب في ”الفصال“، خصوصا في هذا الظرف الذي جعلني أشعر أن الموت بيزنس، وأنهيت النقاش وخرجت.

بالفعل وافقت الشركة الأردنية علي تعديل التذكرة ودفعت أنا الفارق في السعر، وتعاملوا معي بشيء من الاحترام والمواساة، ثم إلي جانب أنهم وعدوني بأن يُعيدوا إليَّ - في القاهرة - ثمن تذكرة العودة التي تخص زوجي ولم يستخدمها، فقد وافقوا أيضاً علي نقل حقيبته مجاناً. فتساءلت: أين مصر للطيران من هذه المعاملة؟

وبقيت في نفسي آثار ذلك إلي أن اضطرتني الظروف - مؤخرا- للحجز على مصر للطيران بعد مرور نحو عام أثناء سفري إلي زيورخ ومنها إلي ألمانيا تمهيدا لمواصلة الرحلة بالقطار لحضور مهرجان كان السينمائي. يومها شعرت بتطور في الخدمة على ”المصرية“، وفي أسلوب تعامل المضيفين والمضيفات، وحتى عندما يكون هناك نقص في أمر ما يحاولون حل الأمر بلطف بعد أن يبذلوا أقصى جهد لحل المشكل أو النقص في بعض المواد.

ثم تأكد هذا الانطباع عندما اضطرتني الظروف إلي عدم حضور مهرجان كان السينمائي وتغيير وجهتي - فجأة - والسفر إلي أمريكا، ففي رحلتي الذهاب والإياب بالفعل كانت الخدمة في راقية متميزة، بفريق الضيافة نساء ورجال، كما أن الفارق الأسعار - بينها وبين الشركات الأخرى - لم يعد بهذا التفاوت الرهيب. بل، على العكس، في رحلات الطيران إلي أمريكا كانت بالنسبة لي مصر للطيران هي التي قدمت أفضل سعر مخفض للتذكرة ذهاباً وإيابًا.

لكل ما سبق تذكرت مقال ”نيوتن“، وتذكرت مقالا آخرا له بعنوان ”شجاعة الاعتذار“، فإن كنت قد اختلفت معه في تقييم شركة الطيران الألمانية وانحزت لها ولمستواها، لكني بعد تحديث خبرتي أتفق معه تماماً في تقييمه لشركة مصر للطيران، مثلما أتفق معه تماماً في أن ”الاعتذار عن الخطأ غير المقصود لا يُقلل من شأن أحد. بل بالعكس؛ يؤكد ثقته بنفسه. يعزز إنسانيته.“ وأعجبي ما فعله هو في هذا السياق، ليس فقط لأنه حين اعتذر أراح ضميره، ولكن لأنه - في تقديري - لا يعتذر سوى الأقوياء، الذين تخلصوا من الثقافة الذكورية البطريركية.

إعلان

إعلان

إعلان