لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

السلام الجمهوري لا يشفي المرضى

د. عمرو الشوبكي

السلام الجمهوري لا يشفي المرضى

عمرو الشوبكي
09:31 م الخميس 12 يوليو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يجب التعامل مع قرار وزيرة الصحة بعزف السلام الجمهوري في المستشفيات، وتلاوة الأطباء قسم ممارسة المهنة على أنه أمر عابر، سواء طبق هذا القرار أم لم يطبق، فهو يعكس ملامح مدرسة سائدة في السياسة والإعلام، لم يتأكد بعضنا بعد أنها تمثل "أم المصائب" وأصل كثير من الأزمات التي تصاعدت في السنوات الأخيرة.

السلام الجمهوري يعزف في كل دول العالم مهما كان توجهها السياسي في مناسبات محددة، وإن الدول التي تبتذل نشيدها الوطني في غير محله وفي غير أوقاته هي لا تنتمي لتوجه سياسي بعينه، إنما للدول الفاشلة أو المهرجة التي تهتم بالشكل على حساب الجوهر، في حين أن كل الدول الجادة، من الصين الشيوعية حتى أمريكا الرأسمالية تترجم وطنيتها بإنجازات تجري على الأرض في الصحة والتعليم والاقتصاد، لا بعزف النشيد الوطني في غير مناسباته الرسمية أو في المدارس لتربية النشء على الانتماء، ولكنه لا يعزف في مستشفى أو في مصلحة حكومية أو في صحيفة أو في شركة، خاصة إذا عزف في بلد معروف بحجم مشاكله، ولن يحلها عزف السلام الوطني مائة مرة.

مدرسة الشكل على حساب الجوهر، واللقطة على حساب المضمون تعمقت مؤخرا في مصر حتى أصبحت نمط حياة، واختارها البعض ليخفي عورات المضمون، فمشاكل الصحة والقطاع الطبي تتعلق بتدهور الخدمات الطبية، وفقر الإمكانات وعدم الاهتمام بالبحث العلمي، وضعف رواتب الأطباء وطواقم التمريض، وعدم قدرة غالبية المصريين تحمل نفقات العلاج، حين لا يغطيهم التأمين الصحي (وهم بالملايين)، لا عدم عزف السلام الوطني في المستشفيات.

لم نسمع من وزيرة الصحة كلمة واحدة عن إصلاح جوانب الخلل التي لا حصر لها في المنظومة الطبية:

كيف تنفذ الحكم القضائي بأحقية الأطباء في بدل عدوى؟

وكيف ستواجه مشاكلهم المالية؟

وهل لديها خطة لعمل نظام صحي أكثر عدالة قد يعتمد على إعادة توزيع أكثر عدلا لما ينفق على المنظومة الطبية، بما فيها أرباح بعض كبار الأطباء والمستشفيات الخاصة، لكي تسهم في الإنفاق على العلاج الحكومي وشبه المجاني؟

لم تقل الوزيرة كيف ستحل مشاكل الإهمال والتسيب ونقص الإمكانات في المستشفيات الحكومية؟

هل ذلك سيكون بالنشيد الوطني، أم أن ترديد النشيد الوطني كل صباح هو محاولة لإخفاء جوانب الخلل الجسيمة في المنظومة الطبية، بادعاء وطنية كاذبة لأنها في غير محلها؟

الوطنية بالنسبة للطبيب أن يحافظ على مرضاه، ويحترم القسم الذي أقسمه بالفعل، لا بالشعارات، أي أن يكون مهنيا وعلميا وجادا.

والقاضي الوطني هو الذي يحكم بالدستور والقانون، لا أن يكون طرفًا سياسيًا أو حزبيًا.

والصحفي الوطني ليس هو الذي يختم مقالاته وتحقيقاته بشعارات تحيا مصر، إنما هو الذي يؤدي عمله بحياد ومهنية، ولا يزور الحقائق أو يزيفها وفق شعارات يتصور وطنيتها.

الوطنية الزائفة مثل التدين الزائف، هي نمط من التفكير، وجد لكي يُخفي العيوب فهو ينقلك إلي ساحة المطْلقَات والعموميات والشعارات التي تخيف الناس عن مناقشة المشكلات، فبدلا من أن نناقش مشاكل الصحة في مصر، نغني النشيد الوطني، ويصبح مدير المستشفى النابه الذي ستكرمه الوزيرة هو الذي يضمن وقوف أطبائه 3 مرات في الصباح والظهر والمساء ليغنوا النشيد الوطني حتى لو تركوا المرضي بلا رعاية و"زوغوا" من الطوارئ، لأن الوطنية هنا انتقلت من كونها قيمًا ومبادئَ تترجم في عمل جاد من أجل تقدم الوطن إلى أغانيَ وشعارات لإخفاء عدم العمل.

قد يرى البعض الأمر بسيطًا، وأن ترديد النشيد الوطني لن يستغرق بضع دقائق كل يوم.

والحقيقة أن الأمر ليس بالبسيط، لأنه يعكس طريقة التفكير وترتيب الأولويات، فمدرسة الشعارات الكذابة والشكليات التي صارت تحاصر العمل المهني والجاد وتغطي على أي نظام للمحاسبة، لأنها محصنة بشعارات وطنية باتت اللغة المعتمدة لكثير من أهل الحكم.

ولعلنا جميعا نتذكر نائبه محافظ الإسكندرية السابقة التي اتهمت في قضايا فساد ورشوة، وكيف كانت من أكثر المسؤولين رفعا للشعارات الوطنية، حتى وصل بها الأمر إلى غناء أغنية "ما تقولش إيه اديتنا مصر، قول حندي إيه لمصر"، في أحد الاجتماعات.

فكل من يبدأ عمله في وزارته أو مؤسسته بالاهتمام بسلة الشكليات: دهان المبني تغيير الأثاث، الشعارات المعلقة على الجدران، النشيد والأغاني الوطنية، فتأكد أنه يُخفي فشله بعدم قيامه بعمله المهني على أكمل وجه برفعه هذه الشعارات، لأنه وجد للأسف من يشجعه داخل الدولة، متصورا أنه بالشعارات تحيا الأمم.

إن الاستسلام لاختيار الوزير من داخل الجهاز الإداري لوزارته، كما حدث مع وزيرة الصحة، أمر شديد السلبية "فالعينة بينة" كما يقال، والمطلوب وزراء من خارج الجهاز الإداري للوزارة، وربما في يوم قريب يكون لديهم رؤية سياسية وليست فقط فنية، عندها سنعرف أن النشيد الوطني قيمه عليا لأي بلد مثل قيم كثيرة وطنية ودينية وسياسية لها مكانها ووقتها ولا يجب توظيفها لإخفاء أي فشل أو تأجيل أي إصلاح بات مطلوبا بالجراحة لا بالمسكنات.

إعلان

إعلان

إعلان