إعلان

الانتماء بقرار وزاري

خليل العوامي

الانتماء بقرار وزاري

خليل العوامي
09:00 م الإثنين 16 يوليو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بين نضالات كثيرة خاضها الشعب المصري، تظل معركة إسقاط دستور 1930، نموذجا مختلفا، وذلك لسببين مهمين، أولهما أنها معركة نوعية جدا، فلم تكن معركة مباشرة ضد المحتل، وإنما كانت دفاعا عن دستور 1923 الذي ارتضاه الشعب، في مواجهة دستور متسلط فرضه الملك فؤد ورئيس وزرائه إسماعيل صدقي، والسبب الثاني أنها استمرت أكثر من خمس سنوات بين أكتوبر 1930 وديسمبر 1935، حتى حقق المصريون النصر، وأجبروا الملك ووزارته على إعادة دستور 1923، وقدموا في سبيل ذلك مئات الشهداء وآلاف المعتقلين.

إن هذه المعركة المهمة والملهمة تعكس ليس فقط حجم إدراك المصريين لخطورة الاحتلال الأجنبي، وإنما أيضا حجم إدراكهم لخطورة الاستبداد الداخلي، والتأثير السلبي لتسلط القصر وحكوماته على الحياة السياسية بما ينعكس بالضرورة على جهود الاستقلال الوطني، هذا من جانب، ومن جانب ثان، فهم المصريين لقيمة الدستور كعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، يحدد الحقوق والواجبات على أساس المواطنة فقط ولا شيء غيرها.

لقد شارك في الانتفاضة ضد دستور 1930 السياسيون والمثقفون والشباب والعمال والفلاحون، وقبل كل هؤلاء المرأة المصرية، وجميعهم عبروا عن انتمائهم الوطني، وإيمانهم بالحرية دون أن يكونوا يستمعون للسلام الوطني في أماكن عملهم كل صباح، بل إن المستشفيات ومكاتب الموظفين وحقول الفلاحين ومصانع العمل لم يكن بها إذاعات داخلية، ولكن كان حب الوطن مرسوما في القلوب، والإيمان به يسكن العقل إلى جوار الإيمان بالله، وكانوا ينشدون في كل فعل كلمات النشيد الوطني آنذاك دون أن يذكرهم به أحد:

اسْلَمِي يا مِصْرُ إنِّنَي الفدا .. ذِي يَدِي إنْ مَدَّتِ الدّنيا يدا

أبدًا لنْ تَسْتَكِيني أبدا .. إنَّني أَرْجُو مع اليومِ غَدَا

وَمَعي قلبي وعَزْمي للجِهَاد .. ولِقَلْبِي أنتِ بعدَ الدِّينِ دِيْن

لكِ يا مِصْرُ السلامة .. وسَلامًا يا بلادي

إنْ رَمَى الدهرُ سِهَامَه .. أتَّقِيها بفؤادي

واسْلَمِي في كُلِّ حين.

لم أجد أفضل من الكتابة عن هذه المعركة، بعد قرار السيدة وزيرة الصحة والسكان، بفرض إذاعة السلام الوطني، وقسم الأطباء في المستشفيات، صباح كل يوم، مدعية أن هذا يعزز الانتماء الوطني، ويذكر الأطباء بالقيم الإنسانية في مهنتهم.

إن مقارنة ما فعلته الوزيرة بما كان عليه المصريون منذ عقود، يعكس مأساة مصر في كثير من نخبتها الحالية، ومن يتولون مناصب قيادية، بين ضحالة التفكير، وسطحية فهمهم لمسألة الوطنية والانتماء. فقد تكون الوزيرة متفوقة في مجال الطب، وحاصلة على درجات علمية مرموقة، ولكنها لم تقرأ يوما تاريخ مصر، ولم تطالع نضالات الشعب المصري الممتدة، وحجم ما قدمه من تضحيات ودماء، وإن كانت قرأت فإنني أجزم أنها لم تفهم.

فعلى مدار عقود ثلاثة مضت تضخمت في مصر ظاهرة التدين الشكلي، وعانى منها المجتمع أشد معاناة ولا يزال، وها هي الوزيرة تفتح الباب وتبدأ مرحلة جديدة من الوطنية الشكلية، والانتماء الحنجوري، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

فقرار الوزيرة يكشف الفارق الكبير بين الوزير السياسي، الذي يعرف ماذا يقول، ومتى يقول، وأين، ويعرف فكرة المواءمة السياسية، ويزن الأمور بميزان السياسة الذي يرتكز بالأساس على قاعدة فن الممكن، وبين الوزير التكنوقراط الذي ترقى في مناصب الوزارة حتى جاءت الترقية الكبرى ليصبح وزيرا، فيفاجئنا بأخطاء كارثية تعكس مدى جهله سياسيا بطبيعة وظيفته، وخصائص الشعب الذي يتعامل معه، وليس أدل على ذلك من كم السخرية التي واجهتها الوزيرة وقراراها؟

السيدة وزيرة الصحة والسكان، أنت على رأس وزارة معنية بصحة مائة مليون مصري وللأسف الشديد كثير منهم صحتهم معتلة، ووزارتك تحتاج إلى عمل شاق ومجهود دائم، وإمكانيات مالية وبشرية وفنية هائلة، والأهم أفكار حقيقية وإرادة جادة للتغيير، فقبل القرارات غير المفيدة، نريد أن نرى تطورا فعليا في أداء الوزارة، وأن تختفي رحلات المرضى للبحث عن سرير في العناية المركزة، أو حتى سرير عادي في مستشفيات الحكومة، ونريد أن تتوقف المستشفيات عن تحميل المريض الفقير ثمن المستلزمات الطبية وأحيانا العلاج. هذا هو دورك، أما الانتماء الوطني فهو جزء من حياة المصريين لا يحتاجون تذكيرا به.

إعلان

إعلان

إعلان