لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

خطاب سياسي.. أم خُطب جوفاء؟

د. عمار علي حسن

خطاب سياسي.. أم خُطب جوفاء؟

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 15 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

حرص الإنسان، منذ بدء الخليقة، على تسجيل مآثره ومفاخره، وأفراحه وأتراحه، كي يطلع عليها من يأتي بعده، فقد يجد فيها ما يفيده. وكانت اللغة أداة أساسية من أدوات الإنسان في تحقيق هذه الغاية. ومع تكرار هذا الفعل صارت اللغة مؤثرة في الممارسة السياسية بدرجة لا تقل أهمية عما يجلبه لها المال والعصبية والموارد الطبيعية.

ربما لهذا لم تنتصر، عبر التاريخ، رؤية الفيلسوف الإغريقي أفلاطون حين نادي بالتخلص من أهل البلاغة، وإحلال الفلاسفة محلهم، في محاولة منه للتصدي للسوفسطائيين الذين استعملوا اللغة بإفراط في تضليل الناس وخداعهم، وإقناعهم بأمور غير أخلاقية ونسبية، بغية الاستحواذ على السلطة.

أفلاطون لم يراعِ تلك الفروق الجوهرية بين البلاغة التي تحل بالخطاب السياسي العام، وتلك التي يلجأ إليها الخطباء، دون نزوع إلى التضليل، وبين خطاب السوفسطائيين القائم على تكريس المغالطات ونشرها على نطاق واسع.

لكن رؤية أفلاطون تمت هزيمتها؛ إذ صارت "الصناعة اللغوية هي من أسس المعمار الذي تُشيّد عليه استراتيجية الخطاب السياسي، ويعلو به صرح الفعل الإجرائي، لأنها الجسر الذي تتهيأ عليه آليات التخييل.. وبذا سيكون من الغباء أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة، حسبما يقول الدكتور عبدالسلام المسدي.

فلا يمكن أن تستقيم الخطابة السياسية دون توظيف اللغة، بغض النظر عن درجة البلاغة المتوخاة، وتكون غايتها إقناع الجمهور والتأثير فيه، ولذا لا مناص من الانشغال بطرق تحقيق هذه الغاية وأساليبها، لاسيما في خطب السياسيين، ليصبح من الضروري أن نعرف منْ الذي يكتب خطب الحاكم؟ وما طقوس كتابتها؟ وما أشكال الجدل الذي كان يوجد بين أفكار هؤلاء الكتَّاب ومعتقداتهم ومصالحهم وأفكار الحاكم ومعتقداته ومصالحه؟

وما الدور الذي مارسته هذه الخطب في الحياة السياسية؟ وهل اعتمدت على المجازات أم الحقائق؟ وكيف وظفت المجاز، خاصة الاستعارة، في الدعاية والإقناع وخدمة الحقيقة إن وجدت؟ وما مدى تجاوب الجمهور معها؟

وهناك دراسات عدة ذهبت في طريق الإجابة عن هذه التساؤلات، منها في حياتنا العربية تلك التي أعدها د. عماد عبداللطيف عن "استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي" وحلل فيها نماذج من خطب الرئيس المصري أنور السادات، ولا سيما استعاراته المفهومية عن "العائلة المصرية" التي أعلن من نفسه كبيرا لها، واستعاراته التي ضاهى فيها بين زمن الجاهلية قبل الإسلام وعهد ما قبل يوليو 1952 في مصر، والتي ظهرت فيها أحزاب ما قبل يوليو، على أنها كانت وحوشًا مفترسة، وأشباحًا كريهة، علاوة على توظيفه المفاهيم والتصورات الدينية في خطابه السياسي، بغية خدمة التحولات الأيديولوجية التي كانت تنزع مصر تدريجيا عن الاشتراكية التي طبقها سلفه جمال عبدالناصر.

وقد تكررت مثل هذه الاستعارة التي تسحب الرؤى الدينية بتاريخيتها الحاضرة في الواقع إلى عالم السياسة، في خطب كثير من الساسة العرب.

وهناك دراسة للدكتور وليد عبدالحي، وزع فيها الخطاب السياسي على عدة ألوان، هي: الأكاديمي التعليمي، وهو إن كان يعرض نفسه بوصفه خطابا محايدا نزيها، فإنه لا يخلو من استعارات وصور مغرضة، فحين يقول باحث: "كارل ماركس يهودي" فإنه قد يرمي إلى صناعة صورة أبعد من مجرد التعريف بماركس إلى جعل ذهن المتلقي ينصرف إلى كل ما تحمله الصورة الذهنية لليهود، ولا سيما المختلفون معهم، وتسحبها على ماركس وفكره.

والإصرار على تثبيت اصطلاح "الشرق" لا يعني وصفا جغرافيا محايدا، إنما هو محمل باستراتيجيات وأيديولوجيات أقلها التعمية على اختيار العرب لتسمية بلادهم إجمالا بـ"الوطن العربي" أو "الأمة العربية، وعلى الأقل "العالم العربي".

وهناك الخطاب السياسي الجماهيري المنطوي على نص تحريضي دعائي، وقد يكون خطبة أو خبرا أو شعارا أو أغنية أو طرفة، ويسعى لأداء وظيفة ما حسب قصد منتجه. وفي هذا اللون من الخطاب تنتعش المجازات وتؤدي وظائفها في الجذب والإغراء والإقناع. ويوجد الخطاب التنظيري الأيديولوجي الذي ينتجه مفكرون وفلاسفة وتروجه هيئات ومنظمات سياسية كالأحزاب وجماعات المصالح وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية، وهو يوظف المجاز أيضا.

وقد انطلقت هذه الدراسة من ثلاثة أمور:

الأول- الإقرار بوجود علاقة بين إنتاج الخطاب السياسي في مجتمع ودرجة تطوره ومكوناته الثقافية في لحظة ما.

والثاني- ميل الجزء الأغلب من الخطاب السياسي نحو الذرائعية.

والثالث- يرتبط بوقوع الخطاب السياسي ضمن نظام أيديولوجي أكبر، ليمثل الجزء الظاهر منه، فيما تمثل الممارسة الجزء المستتر.

وقد أنهى الباحث دراسته قائلا: "أتمسك بداية بفرضيتي بأن الخطاب السياسي العربي خطاب ميتافيزيقي بالمعنى الكانتي للمفهوم، أي خطاب يقارب موضوعه بالتصور المجرد، إن الخطاب السياسي العربي المعاصر يكبت الفعل لصالح القول، وتخالجني رغبة في الاتكاء على التحدي القرآني "فليأتوا بحديث مثله" (الطور-34)، (فأْتوا بسورة مثله) (يونس -38)، (فاْتوا بعشر سور مثله)(هود-13)، فلم لم يذهب التأويل لفهم السورة على أنها" الفعل لا القول"؟!

إن انحياز الخطاب للقول على حساب اللفظ، جعله معنيا بتحقيق سلاسل مترابطة من المصالحات الذهنية، لكنه غير معني بالإجراء، مما جعل الخطاب كمن حفظ بكل دقة خطوات السباحة دون أن تلمس قدماه الماء.

وتوجد دراسة كرستينا شتوك الباحثة في مجال الدراسات الإسلامية في جامعة لايبزيج، والتي عنونتها بـ"اللغة كوسيلة للسلطة: استراتيجيات البلاغة العربية السياسية في القرن العشرين"، وحللت فيها، عبر مقارنة عملية عميقة، خطب عبدالناصر وصدام حسين، راصدة آليات توظيف الرطانة اللغوية في فرض توجهات السلطة وسياستها.

وانتهت إلى أن اللغة العربية تملك تأثيرا عاطفيا خاصا، وأنها بالنسبة للعرب، في بلاغتها، تعتبر الفن الذي يحظى بأكبر قدر من الإعجاب والتقدير، نظرا لأنهم لم يظهر لديهم فن رسم رفيع بسبب محظورات دينية، ولا فن نحت راقٍ متميز للمحظورات نفسها، لذا اتكأ الإبداع الفني علي رسم ونحت جماليات لغوية بديعة وذات تأثير فعال، مستفيدة من الوضع المقدس للعربية بوصفها لغة القرآن الكريم، لتصنع سلطانها الخاص، ولا سيما في ظل استعانتها بالحجج اللغوية والقيمية والتاريخية دوما لجذب انتباه الجماهير، وكسب تعاطفهم، وإخلاصها لتقسيم البلاغة الذي قدمه السكاكي في كتابه: "مفتاح العلوم"، إلى ثلاثة فروع: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، ولهذا صار الخطاب السياسي العربي الحديث مشبعا بألوان من الإيجاز والإطناب والخبر والإنشاء والمجاز والتشبيه والطباق والميل إلى التكرار والتعقيد، وتفضيل الرموز وضرب الأمثلة وتوظيف الحكم وعقد المقارنات بين ما يجري الآن وبين ما وقع في التاريخ الإسلامي، بينما يندر استعمال التلميح والجناس رغم تأثيرهما الكبير على المستمعين.

في خاتمة المطاف يلعب المجاز دورا بارزا في فصاحة الخطاب السياسي، حيث تحضر كل ألوانه وأشكاله فيه، لتؤدي وظائف مهمة في صناعة المعنى، وجلب الإقناع. فالجمهور ينتظر من الساسة إلى جانب الحقائق التي قد تعبر عنها الوقائع والأرقام أن يمتلكوا فصاحة في الإلقاء، أفرط "فن الخطابة" في تبيان جوانبها، لكنهم ينفرون منهم إن لم يكن لديهم سوى الكلام المرصع، والرطانة الجوفاء.

فهناك فارق بين خطاب سياسي فصيح يوظف بوعي الأساليب البلاغية من استعارات وكنايات وتوريات، ويعرف بدقة وقت الإظهار والإضمار، وبين خطاب آخر غارق في الرطانة، التي تبني تلًا من الكلمات ذات الإيقاع الصاخب، يظن معه صاحبه أنه قد ملك الآذان والأفهام، ثم لا تلبث أن تتهاوى صريعة، لأنها تبدو لدى السامعين مجرد مبالغة، تزعم ما يخالف الحقيقة بغية المخاتلة والخداع أو مداراة عيب لدى منتج الخطاب، الذي يظن أو يتوهم أن الصوت الزاعق بوسعه أن يداري أوجه القصور.

إعلان

إعلان

إعلان