لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

غياب التصور القرآني عن التعليم الديني

د. عمار علي حسن

غياب التصور القرآني عن التعليم الديني

د. عمار علي حسن
11:33 م الأربعاء 09 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

طرحت العناصر السابقة، - في مقالي السابق المجتمع العميق للتيار الديني في مصر-، كي تكون مرشداً أو دليلاً، أو على الأقل عاملاً مساعداً لأي شخص أو فريق يتصدى لقضية تطوير التعليم الديني، سواء عبر الوعظ المباشر، أو من خلال تأليف مناهج دينية مدرسية، وهي ليست بالقطع متكاملة، إذ كان يمكن أن يكون مفيداً أيضا لو أتينا على ذكر قضية التمييز الواضح بين الإسلام والسلطة السياسية، لكن العناصر السابقة يمكن التوافق حولها، على العكس من قضية علاقة الدين والسلطة التي لا تزال ملتبسة في أذهان الأغلبية الكاسحة من الناس، بمن فيهم علماء دين يعملون ضمن مؤسسات رسمية مدنية.

فبإمكان هذه العناصر- إن أخذها واضعو المناهج في حسبانهم- أن تهيئ الظروف للقضاء على شروط التطرف والغلو، والعمل، في الوقت ذاته، على تشكل خلفية فكرية أو ذهنية لمن يطلقون "المنهج الخفي". والأهم من هذا وذاك أنها قد تساعد في محاججة هؤلاء، واكتشاف مستوى الزيف أو الانحراف، الذي يشوب تصورهم ومسلكهم.

فرغم وحدة المصدر الذي ينبع منه العلم والتعليم الديني الإسلامي، وهو القرآن الكريم، فالجماعات الدينية السياسية والمتعصبون مذهبياً وفقهياً صنعوا في مختلف صراعاتهم مناهج ومساقات تعليمية مختلفة، ليس إيماناً بالتعددية وقبولها، وإنما جرّاء تعصب كل فريق لما هو عليه، ليس بالضرورة عن اقتناع جازم وحاسم به، وإنما لأن فيه ما يحقق مصالحه أو منافعه أو يلبي رغباته.

إن الإسلام يحمل الكثير من المضامين المرتبطة بروافده الثلاثة، وهى العقيدة والعبادات والمعاملات. وتلك المضامين التى تتوزع على عشرات الفروع، تُظهر فى تبلورها العام المستند إلى النص والممارسة معاً أن هناك سماتٍ معينة يتميز بها التصوّر الإسلامى، تتمثل أساساً فى أنه دين واقعي يتجه إلى المثال، ويوازن بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، وينادي بضرورة الانتقال من الظني إلى القطعي فى المعرفة والواقع المعيش، ويزاوج بين الصواب والإخلاص، وينزع إلى الكونية، بوصفه رسالة إلى البشر أجمعين. لكن هذا التصوّر تراجع فى واقع المسلمين الحالي، ولذا خسروا نهجاً وسطياً يعينهم على فهم الحياة الإنسانية، ويجعلهم قادرين على وزن ما يُعرض من أفكار بميزان دقيق، دون تحجّر يُفضى إلى التخلف، أو تفلت ينتهى إلى الفوضى والاضطراب.

وتبقى قضية "الصواب" و"الإخلاص" هي الأكثر إلحاحاً فى واقعنا المعيش، نظراً إلى ارتباطها بمشروع الجماعات الدينية السياسية، الذى أخذها إلى العنف والإرهاب، تلك الجماعات التى تتوهّم أن إخلاصها لفكرتها كفيل بأن يعفيها من أن تُجهد نفسها فى البحث عن طريق صائب تسلكه فى سبيل تطبيق هذه الفكرة، المرتبطة أساساً بغاية محدّدة هى حيازة السلطة السياسية، والثروة الاقتصادية، والمكانة الاجتماعية.

ومع أن خطاب زعماء هذه الجماعات يقول إن الأصول التعليمية والتربوية الإسلامية ربانية المنشأ، وليست من صنع الإنسان، وإنها لو كانت من تخطيطه لتعددت هذه المناهج بتعدد الأفكار والبيئات والعصور، وهي مسألة ليست صائبة بالكلية على أي حال، فإنهم في تصرفهم العملي، النابع من أفكارهم المتصارعة، يفعلون النقيض من قولهم هذا.

وكثير من خطاب هذه الجماعات ينبو عن تلك الخصائص أو السمات التي يتميز بها التصور الإسلامي، فمسائل مثل الإخلاص والصواب، والمثالية والواقعية والتوازن والعقلانية والشمولية والعلمية القائمة على الحقيقة والكونية الربانية، وقيم مثل الرحمة والعدل، نادرة الوجود في خطابها الزاعق، وإن وجدت، فَسَرعان ما تنحرف عن مسارها السليم المتوافق مع القرآن، لتتوزع على مسارات متناطحة، كل منها يتعبد تحت أقدام أتباع جماعة، فيسلكونه دون تردد، وهم ممتلئون بغرور شديد لأنهم يعتقدون أنه "الطريق المستقيم" وأن ما هم فيه ليس سوى الصواب المطلق، ولذا فإنهم هم "الفرقة الناجية"، وهي مسألة اختلقها البعض لإقصاء الآخرين، وتعظيم الشعور الزائف بالاصطفاء.

ورغم أن ما في القرآن من ذكر جلِّي للعقل، وتوكيد لدوره العظيم، وكذلك إشارات صريحة أو ضمنية إليه، فإنه يأتي عرضاً غير مقصور في خطاب هذه الجماعات الذي نلمح فيه أحيانا شيئاً من الزرايةِ بالعقل أو التحذير منه، بزعم أنه يضر بالعقائد، وأنه باب من أبواب الدعاوى والإنكار.

إن كثيرا من الدراسات والأبحاث قد تصدت لتحليل مناهج التربية الدينية في مدارس عربية عدة، ومنها من عكف أصحابها على فحص الدراسات في مدارس ومعاهد وكليات دينية صرفة. وخرجت بعض هذه التحليلات إلى مختلف وسائل الإعلام، وعقدت بشأنها مناظرات على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، ومعها اكتشف تيار اجتماعي لا بأس به أن كثيراً من هذه المساقات والمناهج التعليمية في حاجة ماسة إلى إعادة نظر.

وبعض القائمين على التعليم الديني من أصحاب الخطاب المعتدل نسبياً باتوا يؤمنون بهذه المسألة، ويتحدثون أحيانا عن التجديد والتطوير والتحديث لكنهم، في الغالب الأعم لا يلمسون جوهر المشكلة، ويكتفون بالاحتفاظ بطريقة التفكير التي ينتج بها المتطرفون والمتشددون والمتنطعون والمتمذهبون والمتعصبون خطابهم، مع تغيير في بعض المضامين، بحيث تصبح أكثر اعتدالاً أو توسطاً وهدوءًا وعصرنة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

لكن أصواتَ هؤلاء لا تزال خافتة، كما أنهم يلاقون عنتاً وتعسفاً وصداً من زملائهم أحيانا، ومن الإدارات التي تسوق المدارس الدينية أو التعليم الديني أحيانا، فيضطر فريق منهم إلى العودة إلى مسايرة من حوله، وتظل قلة قابضة على آرائها ومواقفها من الإصلاح والتجديد، لكن قدرة هؤلاء على الفعل تتداعى وسط طوفان من الآراء التقليدية المحافظة، التي لم تعد تقتصر على ما يدور في أروقة مدارس تلقن تعليماً دينياً، بل انداحت في ساحات المجتمع، وملأت المجال العام، وصار لها أنصارها، حتى داخل المؤسسات الرسمية في الدول.

وما يزيد الطين بلة أن المؤسسات القائمة على التعليم الديني سرعان ما تحاصر أو تهمش هؤلاء الإصلاحيين، وتحول بينهم وبين تطبيق ما يرونه، وتضيع شكواهم سدى، مع غيبة الإرادة الحقيقة في الإصلاح الديني، واكتفاء كثير من السلطات الحاكمة بالأقوال في هذا دون الانتقال إلى الأفعال الناجزة الحاسمة.

كما أن هذه الأفكار الإصلاحية يتم تداولها، في الغالب الأعم، بألسنة وأقلام قلة من الدعاة والمفكرين، الذين يعملون خارج المؤسسات القائمة على التعليم الديني، وبالتالي لا تجد طريقها إلى التطبيق بين التلاميذ والطلاب، خاصة أن من يقومون بالتدريس يتعمدون تشويه أصحاب هذه الأفكار متهمين إياهم بأنهم "غير متخصصين"، رغم إقرارهم بأن تعلم الدين "فرض عين"، وهو الاتهام الأقل ضراوة إن قورن باتهامات أخرى مثل الغربنة والأمركة والعلمنة، بل العمل على هدم الإسلام.

فهؤلاء المفكرون لا يملكون إلا تأليف الكتب ونشر المقالات الصحفية، والتي يتم تداولها على نطاق ضيق، في ظل ضعف التأليف والتوزيع، لا يقارن البتة بالفرص المتاحة للوعاظ والخطباء ومنتجي الفتوى الذين يمتلكون منافذ عديدة للوصول إلى أسماع قطاع عريض من الجمهور، يزيد على هذا أنها منافذ تحظى بقداسة مصطنعة مستمدة من منابر المساجد، ومؤسسات إصدار الفتوى، وتلك القائمة على إنتاج الخطاب الديني.

ولا ينكر أحد أن كثيراً من مضامين التعليم الديني، الرسمي وغير الرسمي، في بلادنا قد ساهمت في صنع الجماعات الإرهابية التي ترفع راية الإسلام زوراً وبهتاناً، بحيث صارت هي الأكثر قتلاً باسم الله في وقتنا الراهن.

وإذا كان بوسع أي منصف، أن يمد الخيط إلى أزمنة مضت في تاريخ البشرية ليستقر في يقينه أن أغلب، إن لم تكن، كل الأديان والمعتقدات والمذاهب قتلت بشرا، في مختلف الأمكنة والأزمنة، باسم الرب، أو باسم السماء، كما قتلت أيديولوجيات عديدة، على رأسها الفاشية والنازية، ملايين البشر باسم الوطنية أو القومية، لكن الموجة الأخيرة من القتل على الهوية الدينية نشطت فيه جماعات ترفع زعما راية الإسلام، بينما راحت الأمم الأخيرة، على اختلاف الأديان التي يؤمن بها أهلها، تتحدث وتؤمن أكثر بقيم التسامح وقبول الآخر وحقوق المواطنة وحرية الاعتقاد.

كما أن التذرع بسقوط الجميع في دوائر العنف على خلفيات دينية في أزمنة متتابعة لتبرير ما تفعله الجماعات الإرهابية التي تسند وتنسب نفسها إلى الإسلام ينطوي على مغالطة منطقية فاضحة وفادحة، فالخطأ لا يبرر الخطأ، لاسيما مع دين يأمر أتباعه بألا يعتدوا، وألا يمدوا إيديهم إلى الآخرين إلا لكف العدوان، ويطلب منهم أن يتبعوا الحسنة السيئة لمحوها، وقبل كل هذا يحضهم على التمسك بالقيمة المركزية التي حددها القرآن الكريم للإسلام وهي "الرحمة".

وإلى جانب إهمال خصائص التصور الإسلامي في الخطاب التعليمي للمتشددين والمتطرفين فإن موقفهم أثر سلباً على ترجمة موقف القرآن من العلم في الواقع المعيش. وهنا يقول عالم الفيزياء والرياضيات الأمريكي من أصل باكستاني برويز أمير علي بيود:

"النظر في التاريخ الإسلامي يؤكد أن انهيار العلم في الحضارة الإٍسلامية قد تزامن مع تصاعد التيارات الدينية المتكلسة، التي أعاقت وجود المؤسسات المدنية واستمراريتها. هذا لا يعني تحديد رد الفعل الأصولي ضد العلم، كسبب منفرد، خاصة أنه لا يمكن استبعاد العناصر الاقتصادية والسياسية من المشكلة. لكن من المؤكد أنه بتعالي أصوات عدم السماحة، والتعصب الأعمى، تراجعت العلوم المدنية أكثر فأكثر، حتى انتهى العصر الذهبي للنبوغ الإسلامي في القرن الرابع عشر، وتحول صرح العلم الإسلامي إلى أنقاض، ثم صارت الحضارة الإسلامية من حينها وجوداً لزجاً متشبثاً بماضيه الذي كان يوماً ما رائعاً وجديداً.

ونظراً لأن أصوات المتشددين لم تنقطع على مدار القرون التي أعقبت هذا فإنهم تمكنوا من استعادة الآراء القديمة دوماً، وتوظيفها بإحكام في سبيل وقف مسيرة العلم، التي خف صوتها، وكلَّ ساعدها، ووهنت روحها، واستسلمت في الغالب لإرادة الذين عملوا على حصارها وتوقيفها، بعد أن كانت ملء أسماع العالمين وأبصارهم، فانتهينا إلى ما نحن فيه الآن من تخلف علمي فادح وفاضح، لاسيما في العلوم التجريبية أو التطبيقية.

 

إعلان

إعلان

إعلان