لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"حاول ألا تراني".. محاسن اللغة والصورة لا تجمل واقعًا بائسًا

د. عمار علي حسن

"حاول ألا تراني".. محاسن اللغة والصورة لا تجمل واقعًا بائسًا

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 18 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يهدي الكاتب أسامة حبشي مجموعته القصصية "حاول ألا تراني" إلى كثيرين، لكنني توقفت عند اثنين منهما المكسيكي "خوان رولفو" (1917 ـ 1986)، والمصري "إبراهيم فهمي" (ت 2004)، وأحسب أن مشروعه الكتابي برمته يراوح بين هذين الاثنين، الأول في واقعيته السحرية التي خرج من عباءتها كتاب هذا اللون في أمريكا اللاتينية برمتها، وفي مقدمتهم جبرائيل جارثيا ماركيز، والثاني في غنائيته الصارخة، وحنينه الجارف إلى كل ما كان قبل أن يسقط في فخ الغربة والاغتراب.

لم يكتب رولفو سوى ثلاثة كتب قصيرة، عبارة عن روايتين هما: "بدرو باراموا"، و"ديك من ذهب"، ومجموعة قصصية هي "السهول تحترق"، لكنه كان، على قلة أعماله، مؤسسٌ اتجاهًا أدبيًا تعافى، وشق طريقه في ثقة. ويستعاد هنا دوما ما اعترف به ماركيز حين كان متعثرًا في الكتابة، فدخل عليه صديقه الناشر وتحت إبطه نسخ من رواية رولفو "بدرو باراموا" ورماه في وجهه وهو يقول له: اقرأ هذه الملعونة لعلك تتعلم الكتابة". وقد قرأها ماركيز بالفعل مرات، وبعدها شرع في كتابة روايته "مائة عام من العزلة" التي قادته إلى جائزة نوبل في الآداب عام 1982.

أما إبراهيم فهمي، الذي مات في ريعان شبابه فلم يترك لنا سوى أربع مجموعات قصصية لافتة، هي: "العشق أوله القرى"، و"القمر بويا"، و"رمش الصبايا"، و"بحر النيل"، لكنها كانت كافية لتجعل كثيرين يتذكرون اسمه، ويأتون على ذكره باعتباره صاحب لون متفرد في الكتابة، حتى أن حبشي يستعيده، بطريقة خاصة، حين يجعل إحدى قصص هذه المجموعة عبارة عن رسالة متخيلة من فهمي إليه؛ لأنه يشعر وهو في العالم الآخر بأن صاحبًـا "حاول ألا تراني" يبحث عنه، في الشوارع التي لم يعد يدب فوقها، وعلى المقهى الذي طالما كان يجلس عليه قبل الرحيل الأبدي، وهنا تقول القصة: "سأقرأ لك ولن أكتب .. واكتب أنت كلامي من بعد على مهل. فلا توجد هنا أقلام ولا أوراق ولا حتى حجر المعسل ـ للأسف ـ بداية ادع معي على من حجب صوتي، وحجب القمر عني، وأبلغه في رسالتي إن استطعت يا أيها الذي يبحث عني". وينهي حبشي القصة/ الرسالة على لسان أو تخيل فهمي بالقول: "انتهت رسالتي يا من تبحث عني وتذكر أن تبلغها لهم في مشارق البلاد ومغاربها، وإن تعبت من اللف استرح واقرأ في "العشق أوله القرى" علك تجد "القمر بويا" في "رمش الصبايا" عند "بحر النيل".

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل أسامة حبشي، وهو أديب وكاتب سيناريو ومخرج مستقل، مجرد صدى لهذين الاثنين؟ أم أنه يبني عليهما، في مجموعته المنشورة ضمن سلسلة "أصوات أدبية" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ليصنع عزفه المنفرد أو المتميز؟

ابتداء فإن حبشي الذي دخل عامه الخمسين، أصدر عدة روايات؛ هي: "خفة العمى"، و"موسم الفراشات الحزين"، و"مسيح بلا توراة"، و"سرير الرمان"، و"حجر الخلفة"، و"1968"، لكنه مال في كل هذا إلى التكثيف والاختزال، فجعلته الرغبة في الإبداع يتجاوز ما كتبه رولفو عددًا، ومنحه العمر أن يزيد على ما خلفه فهمي من أعمال، لكنه يظل أسير الاثنين، الأول في تحليقه والثاني في بلاغته الجديدة.

في قصص المجموعة ذهاب وجيئة بين ما يصلح إن وجد فيضا في السرد أن يكون رواية ولو قصيرة مثل قصة: "هنا وهناك" التي تحتوي على أماكن متباعدة وشخصيات متعددة ومتناقضة، وبين قصة قصيرة جدًا غارقة في الرمزية مثل: تلك المعنونة بـ"باب" والتي تقول كلها: "غاب أصحاب الدار عنه فأسلم نفسه للصدأ وللسوس، وبعد عمر من الحزن والانكسار قرر الباب الانسلاخ عن محيط جدارة، وسقط ككلبة ميتة فاحت رائحتها النتنة في فضاء الكون".

ولا ينشغل حبشي أحيانا بالحكاية إن نادته اللغة، أو دعاه الموقف إلى أن يحفر فيه عميقا، ولا يتجاوزه إلى نقطة متقدمة، وعلى القارئ أن يتفاعل معه وفق هذا الشرط غير المعلن، مؤمنا بأن فن القص قد لا يكون أحيانا أكثر من الغوص في الأعماق البعيدة وليس مجرد سرد الحكايات المشبعة أو المسلية، أو الامتثال التام للقوالب الجاهزة التي تفرق بين القصة والخاطرة والانفعال اللحظي والتعبير بالكتابة أيا كان نوعه.

فالكاتب يدرك للوهلة الأولى أنه يكتب قصصًا، لكن بطريقة مختلفة، وعلى القارئ أن يدرك هذا ولا يبقى مستسلما للطرق والأساليب التقليدية أو المتعارف عليها في القص، وعليه أيضا بدلا من أن يحاسب الكاتب أو يسأله عن الحكاية أن يمرح معه في فضاء اللغة والصور والحالات والانفعالات، وسيوقن في النهاية أنه أمام فن ظاهر، بقدر ما يتمرد على الأشكال التقليدية في الحكي فإنه يحتفي بها أحيانًا، وهو ما نجده في استخدام الكاتب لعبارة وردت كثيرًا في كتب التراث العربي هي: "اعلم ـ أعزك الله ـ أن الروح لا تحتمل ثقل الجسد"، في قصته المعنونة بـ"ألف عام إلا يوم".

إننا في هذه المجموعة أمام جيشان فني ولغوي يأتي بعضه وصاحبه في وعي، ويتهادى أحيانا ومن أتى به على حافة الغياب، لنرى أنفسنا أمام نص يتخالط فيه الانتباه مع الغفلة، والتذكر مع النسيان، والصحو مع السُكر، والإظهار مع الاستبطان، لنعايش نصوصًا عن التذكر والوفاء والغربة والاشتهاء والمقاومة والانكسار، وتنطوي على شيء من تصورات عن الموت والحياة، والفرح والحزن، والخوف والاطمئنان، والحرية والإكراه.

وبذا لا تعني شاعرية قصص المجموعة وعزفها على وتر اللغة خلوها من التفاعل مع السياق الاجتماعي الراهن، بل إن كل قصصها الثلاثين، على اختلاف حجمها، تبدو منشغلة بالهموم الذاتية والاجتماعية، متراوحة بين حديث عن الاكتئاب والانسحاب والعزلة وآخر عن مشاكل العوز وانعكاس تكنولوجيا الاتصال الحديث على تصورات البشر وتصرفاتهم.

كما تحتل المرأة مكانة في هذه القصص عبر الأدوار المتعددة التي تأخذها في الحياة، وتنعكس في هذا السرد، لنراها صديقة وحبيبة وزوجة وموضع للالتفات والدهشة والحسرة والحنين مثلما جادت به قصص: "وردة واحدة تكفي لذبح البشر"، و"فيما وراء المجذوب"، و"مقعد واحد"، و"خادم الوردة"، و"هي وهو"، و"فنجان وفراشة".

وهذه المراوحة بين الذاتي والاجتماعي يمكن أن نجدها أحيانا في فقرة واحدة من قصة ما، مثل تلك التي يقول فيها الكاتب: "بلغت الأربعين من العمر ولم يبلغ الضجر سوى مراهقته التي لا تكف عن مضايقتي، بالأمس استيقظت كالعادة، وكانت الشمس لا أثر لها على الإطلاق" وحين نسأل عن سر هذا الضجر نجده يلاحقنا: "أنا أسكن مدينة جديدة ترتمي في الصحراء كقطة ميتة.. مدينة لا طعم لها سوى رائحتها المقززة"، هكذا ينعكس العمران المعزول على الحالة النفسية لبطل القصة؛ لتصبح غربته اثنتين في المكان، وفي الحال.

وتتوزع عناوين المجموعة بين هذين المسارين، إن رأينا أن الذاتي قد يكون غنائيا بطبعه، والاجتماعي منفتح على مفردات الواقع. والأول تمثله عناوين قصص من قبيل: "النهار الهارب"، و"إطار يرتعش من الذكري"، و"ريح لا مبالية"، و"فوضى الحدس"، و"سبعة بحور بعد الألف"، وتمثل العناوين مثل: "خروج آمن"، و"حياة جديدة"، و"نهار يليق بفنجان القهوة"، و"شات الفيسبوك"، وبلكون معزول"، و"مقهى الحرية"، و"محطة جروميلو"، و"باب".

وفي قصص المجموعة نسمع الجمادات وهي تتألم وتحلم، ونرى بعض البشر صامتين في خرس، ونفهم في ركاب كل هذه الحالات أن القصة يمكن أن تطول قليلا، أو تأتي ومضة شاردة، تبرق ولا تريد أن تنطفئ.

في العموم فإن هناك موسيقى داخلية ما، تنظم بين كل هذه القصص، التي قد لا تستقر في رأسك تفاصيل حكاياتها حين تنتهي منها، وقد يسأل القارئ المتعجل نفسه: ما هذا؟ لكن القراء الثقات والمتيمين بالجمال، وهم الأهم، يدركون جيدًا أنهم أمام نص مغاير، له من الموسيقى الداخلية، والعزف على وتر الروح، ما يكفي أن يشغل الذهن فترة ليست بالقصيرة.

و"حاول ألا تراني" كما هي أغلب كتابات أسامة حبشي، إن لم تكن جميعها، تنبع أو تنضح على مهل من عالمين متقابلين، روح هائمة وجسد عاجز. والروح هنا هي كل شيء لا يمكننا تحديد كنهه يأخذنا إلى حيث لا نعرف، وإلى ما ليس بوسعنا السيطرة عليه، وقد يكون التجلي الأسمى للكلمة، في معانيها العميقة، ومحاولتها عبثا التعبير عما وراء المحسوس والملموس. أما الجسد فهو كل تجل مادي ظهر في القصص والذي قد يكون شارعًا مجهدًا، أو مدينة منعزلة أو أناس يعانون من الفاقة هنا في مصر، أو من الاغتراب والخواء هناك في مدن أوروبية زارها الكاتب وورد ذكرها في قصصه.

ربما أجد في عبارة وردت بإحدى قصص هذه المجموعة ما يعبر عنها جميعا، وربما يرسم ملامح عالم الكاتب وتوجهه، ألا وهي: "شيء ما بداخله يتأرجح بين الهنا والهناك. ثمة توارد لذكريات هناك تقتحمه هنا، وثمة رغبة هنا قد أفلتت من رغباته هناك. عالمان كضدين لن يلتقيا أبدا".

وإذا كان هذان العالمان لا يمكنهما الالتقاء أو العناق أو التطابق في الواقع المعيش، فإن الكاتب يردم ما بينهما بخيال جامح ولغة فياضة وتأملات تقترب من أن تكون رؤية خاصة به لمعاني العيش ومساره الطويل الشاق.

إعلان

إعلان

إعلان