لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 معايير مزدوجة

د. جمال عبدالجواد

معايير مزدوجة

د. جمال عبد الجواد
09:02 م الخميس 19 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. جمال عبدالجواد

عجيب أمر المعارضين على قنوات التليفزيون الأجنبية وشبكات التواصل؛ فالأمور عند هؤلاء تقاس بمقياسين، والمعايير عندهم مزدوجة، وما يطبقونه على بلاد الله وخلق الله، يبدلونه عند الحديث عن مصر. ينظر الواحد من هؤلاء إلى المباني الشاهقة والواجهات اللامعة المضيئة والشوارع الفسيحة في مدن كبرى مثل نيويورك وطوكيو وسنغافورة وبكين ودبي والدوحة، فتسمع من المعارض إياه شهقة عالية عميقة، تدل على الانبهار وعدم التصديق، يعقبه محاضرة تبكيت عن البلاد الجميلة النظيفة بالمقارنة مع العشوائيات والمباني الكالحة المتربة عندنا. فعلا المشهد عندنا يصيب بالكآبة، ولهذا شرعت الدولة في تطوير منطقة وسط العاصمة القاهرة لاستعادة بهائها، كما بدأت في بناء مدن جديدة متطورة في العاصمة الإدارية والعلمين والمنصورة، غير أن كل هذا بالنسبة للمعارضين إياهم ليس سوى إهدار أموال، واختلال أولويات، وتقليد لمدن الخليج.

تخترق إيران دول الجوار ممتطية فرس المظالم التاريخية للشيعة، فيعتبر معارضو الفضائيات والفيسبوك ذلك مهارة خارقة، ومكانة مرموقة، ونفوذًا إقليميًا، ويتبعون ذلك بلطمية دور مصر الغائب، ومكانتها المتراجعة. تقوم تركيا بالتوسع في العراق وسوريا، وتدخل في مواجهات مع قبرص واليونان، وتتوتر علاقتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فيرون في ذلك عودة للسلطان محمد الفاتح، في صورة أردوغان ذي القلب الجريء، الذي يتلاعب بالخصوم والحلفاء من موسكو إلى واشنطن وما بينهما. طبعا لن يفوتهم مقارنة دور تركيا المشاكس بالدور المصري المتخاذل، الذي يتجنب الدخول في صراعات، ويركز جهوده على بناء البلاد، وعلى حشد الموارد من الخارج إلى داخل الوطن. العجيبة أنه ما إن تقرر مصر مفارقة ما وصفوه بدور الطيب المسكين، إلى سياسة نشطة فعالة استفزها التوسع التركي في ليبيا، إلا ويخرج هؤلاء ليتحدثوا عن توريط مصر في ليبيا تحت إلحاح وضغط وإملاءات خليجية.

تنظم الدول المهرجانات والمؤتمرات الحاشدة من أجل تطوير وترويج علامتها الوطنية، ولنشر صورة طيبة لها في العالم. هذا هو ما تفعله الدول الصاعدة من الصين وماليزيا إلى الإمارات وقطر، فنجدهم يتبنون مسابقات للشعر والرواية، ويعقدون المؤتمرات الحاشدة حول تيمات وموضوعات متنوعة، من التعددية والتسامح إلى الطاقة النظيفة والسعادة الإنسانية، وينفقون الملايين من أجل تنظيم أحداث رياضية دولية، فينبهر المعارضون إياهم، لكن ما إن تفكر الحكومة المصرية في تنظيم حدث مثل منتدى الشباب الدولي، إلا وتتحدث نفس الألسنة عن إهدار الأموال واختلال الأولويات.

كلما كان هناك أموال تنفق تحدث هؤلاء عن الفقراء، وأولوية الإنفاق عليهم، طعاما وتعليما وصحة، بدلا من إنفاق الأموال على مدن جديدة ومؤتمرات وسياسة خارجية. هذه الطريقة في المعارضة تقوم على مغالطتين، الأولى جوهرها إنكار، والثانية جوهرها تزييف. تنكر معارضة الفضائيات والفيس بوك أن هناك أي شيء إيجابي يحدث في مصر. لن تسمع أحدا من هؤلاء يتحدث عن معدل النمو الذي قارب الـ6 %؛ ومعدل البطالة الذي انخفض من أكثر من 13% إلى أقل من 8%؛ ولن يتحدث أحد عن زيادة الاحتياطي النقدي، أو تراجع التضخم؛ لأنه من وجهة نظرهم فإنه لا شيء جيد يحدث على أرض مصر، رغم أنهم يقودون سياراتهم على طرق آمنة سلسة؛ ويحصلون على الخبز المدعوم باستخدام البطاقات الذكية في أي وقت ومن أي مكان بلا معاناة؛ ولا يشغلون أنفسهم بشراء الشموع والكلوبات؛ لتوفير الإضاءة لأبنائهم التلاميذ في موسم المذاكرة للامتحانات، فالكهرباء لم تعد تنقطع، والإضاءة أصبحت مضمونة طوال الوقت. إنه نوع من المعارضة الذي يصور الأمور على أنها أسوأ ما يمكن، وأن الناس لم يعودوا قادرين على مواصلة الحياة، فراحوا يستعدون للثورة، في إنكار صريح لما نراه كل يوم على أرض مصر.

يتحدث معارضو الفضائيات والفيس بوك وكأن كل شيء يجب أن يتم تأجيله حتى يتم إخراج آخر مواطن من تحت خط الفقر، وكأن الدول خلقت من أجل مهمة وحيدة هي إطعام الفقراء وتعليمهم وعلاجهم، وكأنها لا تستطيع تنفيذ أجندة عليها أكثر من موضوع وقضية مهمة، فهي تطعم الفقراء وتعلمهم وتعالجهم وتوفر السكن لهم، فيما تواصل تحسين جودة الحياة عبر تطوير المدن والقرى، وتنشط دبلوماسيا وإعلاميا ودعائيا وعسكريا للدفاع عن مصالح الأمة وأمنها. مؤكد أنه على الدولة أن تهتم بالفقراء، ولكن الدولة أيضا مسئولة عن طبقات أخرى، ليس من العدل تأجيل أحلامها وطموحاتها حتى يتم إطعام آخر جائع وتعليم آخر أمي، وعلاج آخر مريض.

الصورة التي يقدمها هؤلاء للطريقة التي تعمل بها الدول والمجتمعات هي صورة مزيفة، لا يوجد فيها سوى فقراء لا يهتمون إلا بالخبز، وليس لديهم أي تطلع للعيش في بلد نظيف، جميل وعصري، فلو كانت هذه الصورة فعلا حقيقية، لما كان يجب تشييد الأهرامات، وتحفة السلطان حسن المعمارية، وقلب القاهرة الخديوية، وبرج القاهرة، ولكانت بلادنا أرضًا خلاءً من أي صرح كبير أو مشهد جميل، يمنح للوطن هوية بصرية وعلامة مميزة، ويحسن جودة حياة الناس، ويمنحهم أشياء يفخرون بها. مؤكد أن لدينا مشكلات، ومن الواجب علينا التحدث عنها ومناقشتها؛ لكن ما يفعله المعارضون إياهم في فضائيات تنفذ أجندات معادية وعلى شبكات التواصل، لا يمت إلى أي نقاش جاد، وأي حوار وطني حقيقي بأي صلة.

إعلان

إعلان

إعلان