إعلان

الأب الروحى : قرصان كفيف!

د. عبد الهادى محمد عبد الهادى

الأب الروحى : قرصان كفيف!

د. عبد الهادى محمد عبد الهادى

كاتب وأكاديمي مصري

09:01 م الجمعة 01 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

القرصنة الإلكترونية قديمة ولها تاريخ، ويبدو أنها ستستمر لزمن غير معلوم. وبدأت القرصنة مع اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية في أواخر القرن التاسع عشر واختراع وسائل الاتصالات اللا سلكية، من التلغراف إلى الهاتف، مرورًا بالراديو والتليفزيون وصولا إلى الإنترنت والواي فاي. في البداية كانت مجرد اختراقات بسيطة قام بها شبان ومغامرون، ومع تطور وسائل الاتصالات تطورت وتنوعت وانتشرت القرصنة، وفي السنوات الأخيرة تسارعت وتيرتها وارتفعت كلفة الخسائر الناجمة عنها، وبات ينظر إليها على أنها أحد أهم أسلحة الحروب الحديثة. لكن كيف تحولت القرصنة من مغامرات بسيطة إلى أداة فعالة في المنافسة بين الدول والشركات وسلاح فتاك يعمل في خدمة رأس المال وإسرائيل؟

لم يظهر مصطلح القرصنة الإلكترونية "Hacking" إلا في الستينيات من القرن الماضي، وأطلق ابتداءً على مجموعة من الباحثين والهواة الذين نجحوا في تعديل وظائف نموذج تجريبي لقطار دون حاجة لإعادة تصميمه من جديد، لذلك ارتبط مفهوم القرصنة بالمهارة الفائقة والذكاء غير العادي، وأصبح لفظ "القرصان" يعني في المخيلة العامة شخصا ماهرا يستخدم طرقا سهلة وذكية في حل مشكلات الأجهزة وتحسين كفاءتها، لكن هذه الصورة الإيجابية تغيرت بعدما انتشرت حمى قرصنة الهاتف في السبعينيات ومن بعدها ظهرت أجيال جديدة من قراصنة الكمبيوتر، والبرمجيات، والأجهزة الإلكترونية، والاستهلاكية وغيرها.

أصبح كل شيء -تقريبًا- يمثل هدفًا للقرصنة، وتلاحقت العمليات في صورة موجات عنيفة. كانت الموجة الأولى في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مع ظهور وانتشار "البريد الإلكتروني"، وجاءت الموجة الثانية مع ظهور وانتشار متصفحات الشبكة في التسعينيات، لكن موجة ثالثة عنيفة بدأت مع ظهور وانتشار الوسائط الاجتماعية "السوشيال ميديا" في القرن الجديد. ويبدو أن الموجة الحالية من الهجمات تتمظهر في شكلين رئيسيين: الأول يتبدى في صورة تأسيس شبكات كونية عابرة للجنسيات تستهدف كل شخص وكل شيء تقريبا، والثاني في صورة شركات استخبارات خاصة تظهر وتختفي حسب الطلب، تصف هذه الشركات نفسها على أنها شركات تقدم الاستشارات السياسية والاقتصادية للدول والمؤسسات والأفراد، لا تكتفي هذه الشركات بسرقة البيانات الخاصة والعامة للأفراد والجماعات، بل تعرف كيف تستخدمها في تحقيق الأرباح، وكيف توظفها في الدعاية والترويج للقرارات السياسية والاقتصادية في كثير من دول العالم.

ويصنف الكتاب القراصنة وفقا لهدفهم إلى ثلاث فئات، يطلقون على كل فئة منها لونا يقع بين اللونين الأبيض والأسود، فإذا كان هدف القرصنة هو العلم والمنفعة العامة، أطلقوا عليهم صفة "ذوي القبعات البيضاء"، وإذا كانت القرصنة ضارة، وتنطوي على مخالفة صريحة للقانون، أطلقوا عليهم صفة "ذوي القبعات السوداء"، أما "ذوي القبعات الرمادية" فيطلقونها على القراصنة الصغار من الأحداث والمراهقين، ولا نعلم سببا واضحا أو معيارا دقيقا تم على أساسه توزيع القبعات الملونة على هؤلاء، فالمسافة بين الأبيض والأسود ليست بعيدة، وربما لا يستغرق عبورها سوى دقائق، ليتحول بعدها لون القبعة من الأبيض إلى الأسود، وبالعكس.

الجيل الجديد من القراصنة ينتمون لجنسيات مختلفة، وتتنوع دوافعهم، فمنهم من يعمل للعلم، ومنهم من يعمل من أجل المال، ومنهم من يسعى لإثبات الذات، ومنهم من يعملون لأهداف سياسية واقتصادية ويلعبون أدوارا مهمة ومؤثرة في الصراعات المحلية والدولية، لذلك هم قريبون، بدرجة أو أخرى، من عالم السياسة والمال، وكثير منهم زبائن "مطلوبون" لأجهزة الأمن والمعلومات في العالم، ويلاحظ أن معظم القراصنة الذين بدأوا عملهم منفردين، انتهى بهم الأمر إلى تأسيس شركات متخصصة في الأمن الرقمي، وكثير منهم عملوا، أو يعملون، مع أجهزة الأمن والمعلومات، وصدق أو لا تصدق: بعض من قرصنوا مواقع وزارة الدفاع الأمريكية ووكالة الفضاء "ناسا" ووكالة الاستخبارات المركزية، أو شركات كبرى مثل "مايكروسوفت" أو "ياهو" أو جوجل" أو "آبل"، حصلوا على وظائف بدوام كامل للعمل على تأمين أنظمة هذه المؤسسات من الاختراق. دعونا نحكي القصة من أولها.

قراصنة الهاتف

كانت المغامرة الأولى عندما تدخل الساحر والمخترع الإنجليزي "جون نيفيل ماسكيليان" (1839-1917) بواسطة إرسال رسائل تلغرافية عن بعد ونجح في إفشال العرض العام الأول لتقنية "ماركوني" للاتصالات اللا سلكية الذي قام به الفيزيائي المعروف "جون فليمينج" في عام 1903م. وعندما طلب "فليمينج" من صحيفة "تايمز" المساعدة في كشف النقاب عن "الوغد" المسئول عن هذا "التخريب"، اعترف "نيفل" بدوره قائلا إنه كان يبرهن على ضعف اختراع ماركوني. ومع ظهور الهاتف سنحت أول فرصة للقرصنة، اخترع الإيطالي "أنتونيو ميوتشي" الهاتف لكنه نسب خطأ وزورا إلى "جراهام بل"، في بداية عصر الهاتف كان يتوجب على مشغلي الخدمة توصيل المكالمات بين العملاء بواسطة لوحة للمفاتيح، وكان معظم العاملين شبابا سبق لهم العمل على أنظمة التلغراف التي سبقت ظهور التليفون، فانشغل المراهقون باستكشاف إمكانات هذا الاختراع الجديد حينها، وكثيرا ما استخدموه في المزاح والتسلية، فقررت شركة "بل" بعد عامين فقط من تأسيسها طرد عدد كبير من العاملين- بحجة عدم الكفاءة- وبدأت في توظيف النساء فقط. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية بذلت جهودًا كبيرةً في المملكة المتحدة من أجل فك شفرة الاتصالات التي كانت تستخدمها ألمانيا ودول المحور في نقل وتبادل المعلومات السرية، وكللت تلك الجهود بالنجاح في عام 1939م عندما تمكن "آلان تورينج" ورفاقه من ابتكار جهاز-أطلق عليه اسم "بومبي" – يمكن من خلاله فك رموز الرسائل المشفرة بآلة "إنيجما" الألمانية، الأمر الذي عجل بنهاية الحرب وهزيمة ألمانيا وحلفائها.

الأب الروحي: قرصان كفيف

كانت الولايات المتحدة الأمريكية مهد شبكات الهاتف؛ لذلك ليس غريبًا أن يكون القراصنة الأوائل أمريكيين، ففي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ظهر قراصنة الهاتف -"فريكرز"- في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان "جوي أنجريسيا"- واسمه المستعار "فقاعات الفرح"- هو الأب المجهول لهؤلاء القراصنة. ولد كفيفا بولاية فرجينيا عام 1949م وتوفي عام 2007، وكان طفلاً ذكيًا، مرهف السمع، دقيق الملاحظة، مولعًا بالهاتف وبالنغمات والأصوات المصاحبة للاتصالات. كان في الثامنة من عمره عندما استمع إلى صوت عالٍ مميزٍ على سماعة الهاتف، فحاول أن يقلده بصوته، وعندما بدأ "يصفر" بنغمة محددة اكتشف أن هذه النغمة (2600 هرتز) هي -بالضبط- التردد المطلوب للاتصال بشبكة الهاتف وفتح خطوط الاتصال. احتال الطفل الصغير الكفيف -بصفيره المميز- على شركة الهاتف، وانفتحت أمامه الطريق لإجراء اتصالات مجانية بعيدة المدى لسنوات، وعرض ذلك على عدد من أصدقائه، وعندما تم اكتشافه لم يقدم للمحاكمة؛ لأنه كان طفلاً دون سن الرشد.

كابتن كرانش:

"جون درابر" -واسمه المستعار "كابتن كرانش"- كان واحدًا من هؤلاء الأصدقاء، وهو قرصان هاتف من جيل الرواد، ولد عام 1943م، وعمل ضمن قوات الاحتلال الأمريكي في "فيتنام"، في عام 1972م اكتشف أن صافرة صغيرة كانت توزع كهدية مجانية مع علبة حبوب غذائية من ماركة تسمى "كابتن كرانش"، يمكن أن تصدر -إذا نفخ فيها- النغمة المطلوبة للتصريح بخدمة الاتصالات بعيدة المدى التي تقدمها شركة الهاتف. استخدم "درابر" صافرته في إجراء اتصالات مجانية مع جيرانه وأصدقائه، ولم يتوقف عند ذلك، بل ابتكر جهازا -بديلا عن الصافرة -يمكن من خلاله توليد 12 من النغمات المختلفة التي تستخدمها شركات الهاتف، بحيث تستطيع -بكبسة زر واحدة- توليد النغمات المختلفة المطلوبة للتعامل مع كل شبكات الهاتف، استبدل "درابر" الصافرة بدائرة لتوليد النغمات ورتبها في صندوق سماه "الصندوق الأزرق"، كما نشر طريقة صناعته، لذلك يعتبر بحق أحد الرواد وأحد الآباء المؤسسين للقرصنة الحديثة. أضر "كابتن كرانش" بأرباح الشركات المحتكرة لتشغيل الهاتف، فألقى القبض عليه عام 1976م وقدم لمحاكمة أدانته بتهمة الاحتيال وقضت عليه بالسجن لمدة 4 أشهر.

آبى هوفمان:

ارتبطت قرصنة الهاتف في السبعينيات بالأهداف السياسية، ونشط "هوفمان" في حركة الحقوق المدنية الأمريكية قبل أن يتحول إلى معارضة حرب فيتنام ونقد أسس النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي، فشارك مع آخرين في تعطيل العمل ببورصة نيويورك للأوراق المالية في عام 1967، وفى نفس العام قاد مظاهرة من 50000 متظاهر ضد حرب "فيتنام". كان يعتقد أن السيطرة على وسائل الاتصالات سوف تلعب دورا حاسما في انتصار الثورة الاجتماعية القادمة. سعى "هوفمان" إلى أن تكون الاتصالات متاحة للجميع على قدم المساواة، وبعد أن كان عضوا في الحزب الديمقراطي استقال وأسس "حزب الشباب الدولي" وأصبح مهتما بالقرصنة كوسيلة لكشف ومقاومة الطابع الاحتكاري لشركة الاتصالات "أمريكا للتلغراف والتليفون"، وبدأ في نشر عددٍ من الرسائل والتقارير الدورية تحت عنوان "خط الحزب" شرح فيها بالتفصيل طرق اختراق خطوط الهاتف، لكنه ألقى القبض عليه بعد عامين بتهمة بيع الهيروين دون أن تتم إدانته رسميًا، بعدها اختفى لفترة أجرى خلالها جراحة تجميل واختار اسمًا مستعارًا جديدًا وقدم نفسه مهتمًا وناشطًا في شؤون البيئة، لكن ألقى القبض عليه مرة ثانية عام 1980 وقدم لمحاكمة قضت بسجنه عامًا.

مؤسس آبل كان قرصانا:

في السبعينيات انتشرت حمى قرصنة الهاتف بين طلاب الجامعات، ومن المثير أن "كابتن كرانش" كان قد شارك خبر اختراعه للصندوق الأزرق مع "ستيفن ووزنياك"- الذي أصبح شريكا مؤسسا لشركة "آبل" في زمن لاحق. التقط "ووزنياك" الفكرة وصنع صندوقه الذي استخدمه في إجراء اتصالات مجانية لا يمكن تعقبها، حاول في إحداها الاتصال ببابا "الفاتيكان" منتحلاً اسم "هنري كيسنجر"، لكن البابا كان نائمًا، وفى عام 1975 بدأ في تصنيع الصناديق الزرقاء، وشاركه "ستيف جوبز" -المؤسس الشريك لشركة آبل- في تسويقها. احتال "ووزنياك" على شركة الهاتف، وأجرى اتصالات مجانية بعيدة المدى، وباع الصناديق التي تمكن من ذلك، لكنه لم يقبض عليه ولم يقدم للمحاكمة، ولا نعرف لذلك سببا.

كابتن زاب:

"إيان ميرفي" قرصان هاتف من الجيل الأخير، عندما كان مراهقًا اخترق شبكة الهاتف ليستمع إلى مكالمات الفتيات في المنطقة المحيطة، واستخدم الصندوق الأزرق في إجراء مكالمات جماعية مجانية، وألقي القبض عليه في عام 1981م بعد قرصنة شبكة شركة "أمريكا للتلغراف والتليفون" (AT&T)، والتدخل عن بعد لتغيير الساعة الداخلية للشركة، ليستفيد هو وآخرون من تخفيضات منتصف الليل قبل موعدها المقرر بساعات، وقدم للمحاكمة التي أدانته وقضت عليه بـ1000 ساعة عمل في خدمة المجتمع، وأن يبقى تحت المراقبة لمدة عامين ونصف العام.

انتهت قرصنة الهاتف بصورتها القديمة في معظم دول العالم تقريبا منذ منتصف الثمانينيات عندما بدأت شركات الهاتف في استخدام نظام جديد يعتمد على الألياف البصرية وتحديث الشبكات، لم تعد للنغمة التي يبلغ ترددها 2600 هيرتز نفس الوظيفة التي كانت لها من قبل، وصارت "رمزًا" من الماضي.

إعلان

إعلان

إعلان