لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حين كانت شوارعنا نظيفة أيام "الشمروخ"

د. عمار علي حسن

حين كانت شوارعنا نظيفة أيام "الشمروخ"

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 06 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ابن نخلنا العالي، صديق الطُهر والأمهات المعنيات بنظافة دورهن الخفيضة. حين تخلو العراجين في بلحها ورطبها الجَنيَّة، يتهادى لنا قائلًا:

ـ خذوني إلى الدار.

لم يكن بوسعنا أن نستجيب لكل العراجين، فعددها يفيض على حاجتنا، لكن السمين العفي منها كان يجد لدينا إجابة، فنأخذه، وننظفه من بقايا أعناق الرطب الملتصقة به، ثم نسوي فروعه الذهبية المتينة اللينة، ونربطها في منتصفها بحبل ليف أو دوبارة، فيصير مكنسة الصالات الترابية، والغرف الضيقة، وشوارعنا التي لا تخلو من ورق وقش تفادته العصافير التي تبني أعشاشها على مهل في قلب النخيل وعلى فروع الشجر.

في كل صباح، وبعد أن تخرج بهائمنا إلى الحقول، تمد الأمهات أيديهن إلى الشماريخ الراقدة إلى جانب الجدران، تمسكن بأطرافها القوية، وتدفعنها في كل ما حملته أرجلنا والريح إلى قلوب الدور، فتتخلص من ترابها، التي تتكوم عند العتبات، ويكون على كل أم إما أن تحملها إلى الحظيرة لتجفف بها البلل الذي تركته البهائم، أو تدفعها إلى الشارع، فيأخذها من يريد إلى المعاجن التي نطلي بها حوائطنا، أو نصنع منها قوالب الطوب اللبن، أو تسوى بها الحفر التي صنعتها الليالي المطيرة في الشوارع.

وتتلاقي الشماريخ العفية في الشارع، حين تجلس كل امرأة لتكنس أمام دارها، فتصبح شوارعنا نظيفة، بعد أن ترشها النسوة بماء خفيف، تنيخ تحته بقايا الغبار، ولا يعرقل سيرنا ونحن نتقافز في الشوارع لعبًا حتى حلول المساء.

لكن الشمروخ كان عاجزًا عن الوصول إلى الغبار المتراكم في الأركان، يلمسه ويناوشه من بعيد، إلا أنه لا يقدر على إزاحته كاملًا، ولهذا أنصت الرجال في كل الدور إلى قول الأمهات والزوجات:

ـ نريد مقشة من ليف.

وعاد هؤلاء إلى النخل النبيل، يضربون المناجل والسكاكين بلطف في أجساده الفارعة، حتى لا يجرحون السوق العملاقة الطرية، المختبئة خلف لفائف الليف المتين. نزعوا منه على مهل بالقدر الذي يُمكِّن كل رجل أو شاب من أن يأتي بما يكفي لصناعة المقشة المطلوبة، ثم يلفه على عصا من شجر الصفصاف، أو قطعة من منتصف جريدة يابسة، فيكون بوسعه أن يهز الأركان المتربة، فيتركها نظيفة تكاد تلمع في خيوط الشمس المتسللة من النوافذ الضيقة والفُرج النائمة على صفحات الأسقف والأبواب المشرعة حين يتم فتحها على مصاريعها في ربعة النهار.

لم يدر أي منا أن مقشات الليف باتت تباع في البندر، حتى أتت امرأة بإحداها من سوق الاثنين، ليتوالي قدومها إلى دورنا، وتقف أمامنا طويلة مشرعة في وجه الغبار، ويدها الملساء تحن على أيدي الأمهات والزوجات والبنات، فلا تعد أي منهن بحاجة إلى الشمروخ، لا سيما بعد أن استبدلت بعض النسوة مقشات الليف بأخرى مصنوعة من خيوط البلاستيك المتزاحم عن طرفها صانعًا يدًا، تنطوي وتنفرد، فتقدر على التقاط الغبار والقش الصغير وقصاصات الورق، وتسوقها إلى الأركان الصامتة.

واحدة أخرى فرشت في أرضية بيتها البلاط الأسمنتي خفيف البياض، وأخرى بعدها استعانت بالقيشاني الأملس، ونامت فوقه السجاجيد والأكلمة، رافضة مقشات الليف والبلاستيك، لتستقر عاجزة إلى جانب الشماريخ.

اختفت الشماريخ تمامًا، ومعها مقشات الليف في بعض البيوت التي أتى أصحابها ببعض المدينة إلى الريف، ليجيء على دار شيخ البلد يومًا يعرف فيه المكنسة الكهربائية، التي تمضي طائعة أمام الخادمة وربة البيت إن أرادت.

مع الأيام توالت المكانس الكهربائية في البيوت، فلمع البلاط والقيشاني، ونفضت الأكلمة والسجاد كل ما شربته من غبار، لكن أيًا من النسوة لم تعد تفكر في كنس شوارعنا التي غطاها التراب والقش وقصاصات الورق وريش الدجاج والحمام وزغبهما وروث الماشية التي لم يكن تشغلها الجريمة التي ارتكبناها في حق شوارعنا الضيقة.

إعلان

إعلان

إعلان