لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تفاصيل بشرية تمامًا  .."قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود

تفاصيل بشرية تمامًا .."قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
08:57 م الجمعة 05 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يده تفصح عنه، من شكل أصابع يده المفرودة سمع الجملة المباغتة: عقرب، فتح عيونه عن آخرها مندهشا ومأخوذا، تكررت الجملة موجزة بيقين "أنتَ برج العقرب"، احتار قليلا وصمت، لكنه ومن حينها أيقن أن ثمة شيئًا في أصابعه يدل عليه، نظر إلى أصابع إخوته الذين تمنحهم أبواب الطالع أسماء أبراج أخرى فلم يجد شيئا يختلف أو يختص به واضحًا، قال سأسأل من أعرفهم، فلم يجد ردًا، بعد ذلك لم يكرر المحاولة، ومن حينها عرف أنه برج العقرب، لم يعد مهمًا بعدها أن يفعل ما اعتاده بأن يضحك ويسخر كلما استمع إلى حديث متكرر وسؤال مألوف: أنتَ برج إيه؟، فتلك أصابعه صارت تدل عليه.

بأصابعه تلك، وفى صباح ذلك اليوم من أعوام بعيدة، بدأ في فتح علبة كرتونية صغيرة مفضضة حملها شخص وسلمها إلى بواب العمارة ليجدها مسترخية موضوعة على عتبة الباب، ملفوفة بشرائط عريضة ملونة، يتجمع أطرافها عند غطاء العلبة العلوى لتصنع شكل زهرة يحبها، لا بطاقة تعريف ولا اسم لمرسل، عرف أنها جاءت في الصباح المبكر يحملها من أوصى بتسليمها له، أعوام متتالية صار يحدث ذلك فيها، في كل صباح تال ليوم عيد ميلاده يجد علبة تنتظره في ساعة الصباح، يثق أنها مرسلة عن طريق من يعرفه تمامًا، فبها روائح أشيائه، بعض الكتب التي يحبها أو تحدث عنها، وأسطوانتان إحداها لعبدالوهاب والأخرى لأم كلثوم ورائحة خاصة تملأ الغرفة يذكرها دون أن يستطيع استحضار الوجه الذى لا بد رافقه يومًا، يقول هامسًا: رغم كل شيء شكرًا، يطلقها من شباك الغرفة الواسع ويتابع موجات حروفها تعلو في الفضاء فربما تصل هناك.

ها هما عامان متتاليان غابت فيهما العلبة المفضضة، انتظر حتى أيقن باستمرار غيابها، وحاول أن يتشاغل عن ذلك، في المساء ألح الغياب سؤالا حائرا عما حدث، تمنى لو استطاع أن يصل إلى حيث هناك ويطمئن فقط، يقول لذاته يستحق من يرسلها أن أسأل، فقط تمنى لو أن يقول ببساطة ودودة شكرًا، غابت أشياء كثيرة في غياب علبة يوم الميلاد، صار في هذين العامين لا يقرأ كثيرًا ولا يهتم بوضع أسطوانات الغناء التي يحبها في مشغل الأغاني بالعربة، حتى اهتمامات القراءة تحولت كثيرًا، كان يحايل إلحاح رائحة يتيقن أنه يعرفها، ثم انشغل في أشياء كثيرة متفرقة.

في العام الأول للغياب تعمد النسيان وسرعان ما أخذته تسارعات الأشياء اليومية، في العام الثاني لم يسأل عن تلك العلبة ولم ينتظرها، ومع دخول غروب اليوم، راوده إلحاح السؤال ومضى يتصفح وجوهًا من ذاكرته، وقال: رغم كل شيء يظلون بشرًا يصيبهم ما يأتي الناس من ملل وغياب وعوارض أخرى، تمنى لو وجد شيئًا في كل تلك العلب التي احتفظ بها يستدل به، صار يتفحصها من جديدٍ، ينظر في كل ركنٍ، يدقق في تلك القصاصات الورقية الملونة وورق الزهور الذى يملأ فراغ العلب، لا شيء يضيف تعريفًا، يمر على مئات الصفحات من الكتب بحثًا عن شيء يشير إلى نقطة بدء، لا شيء، فلا عبارة محددة أو صفحة مطوية، ولا رسالة في ورقة بيضاء صغيرة بين صفحات كتاب منها، فقط فراغ كبير.

حين أتعبه البحث وتمدد في رأسه ظل السؤال، فورًا جلس على كرسيه المفضل ومدد ساقيه على مقعد مواجه، بينما يؤنسه صوت عبدالوهاب "عندما يأتي المساء" وفى صمت الليل المحيط يعلو الصوت قليلا ويغنى معه، كان يملؤه يقين بأن تلك الموسيقى التي تعبر فضاء الشرفة ستمضي بعيدًا، وأنها ستعود حتمًا ذات يوم محملة بالإجابات.

إعلان

إعلان

إعلان