لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ماسبيرو.. وأنا

لميس الحديدي

ماسبيرو.. وأنا

لميس الحديدي
12:58 م الإثنين 20 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان التلفزيون المصري (ماسبيرو) لسنوات وحتى رمضان ٢٠١٠- قبلةً لعرض أهم المسلسلات والبرامج وبالطبع الإعلانات؛ فقد كان هو الشاشة الأكثر مشاهدة، والتي يتسابق الجميع فنانين وإعلاميين لعرض أهم إنتاجهم على محطاته المتعددة.

مشهد مكاتب مسؤولي التلفزيون المصري ومكتب وزير الإعلام في الأيام الأخيرة قبل رمضان- يعرفه كل المقربين من الوسط الإعلامي حينها، فقد كانت كخلايا النحل: فهناك توضع خريطة أهم شهر في العام، وهناك يحدد مصير مجهود شاق قدمة فنانون وإعلاميون: من سيعرض مسلسلة بعد الإفطار مباشرة كي يحظى بالمشاهدة الأعلى؟

متي موعد البرنامج الحواري القصير؟

ماذا يقدم على الأولى والثانية والنايل لايف؟

ومن سيحصد الجزء الأكبر من كعكة الإعلانات فيصبح الفائز في الموسم الأصعب؟

أسئلة كانت هي شاغل السوق الفنية والإعلامية. وصدق أو لا تصدق؛ فقد كان مركزها ماسبيرو.

المشهد السابق لم يكن مقتصرا على شهر رمضان. صحيح أن "رمضان" هو موسم المنافسة الأشرس، لكن ماسبيرو، في ظل محدودية المحطات الخاصة (فقط دريم والمحور والحياة)، كان الشاشة الوحيدة التي تحظى بالمشاهدة الأعلى لسنوات طوال.

ورغم صعوبات العمل والإنتاج، فالجائزة الكبرى كانت دوما أن تكون على شاشة ماسبيرو. فتلك شاشة العمالقة من الفنانين، والكبار من الإعلاميين.

كان ماسبيرو حلمي أنا أيضا. فبينما كنت أدرس الماجستير في الأخبار التلفزيونية من الجامعة الأمريكية كان ماسبيرو هو الحلم.

لم يكن التلفزيون المصري يقدم حينها الأخبار التلفزيونية والتقارير كما تعلمناها في الجامعة وكما كانت المحطات العربية قد بدأت في التعامل بها.

وكان حلمي حينها أن أدخل ماسبيرو العريق، وأساهم في تحديث البرامج الإخبارية.

كان ذلك مدهشا للكثيرين: "عاوزة تدخلي التلفزيون المصري؟ دول بياخدوا مرتب ٦٠ جنيه"! (كننت حينها قد بدأت عملي في النيويورك تايمز ومرتبي كان بالدولار) "ده أكثر مكان بيروقراطى في مصر!

الكل من حولي كان مندهشا، لكن التحدي كان دائما يراودني: لماذا تعلمنا إذن؟ علينا أن نساهم بهذا التعليم في تحديث المبنى العريق، تلك الشاشة التي قدمت الكبار، مثل سلوى حجازي، وأماني ناشد وليلي رستم، ومن بعدهم نجوى إبراهيم وفريال صالح.

تلك الشاشة لا يمكن ان تنضب، فلماذا لا نحاول أن نعيد الحياة لها من جديد؟ وبدأت المحاولات: الأولى فشلت، والثانية أظنها أدركت النجاح.

كانت محاولتي الأولى في أوائل التسعينيات، مباشرة عقب إتمامي الماجستير.

اتصل والدي بالراحل الإذاعي العظيم سعد لبيب، أول رئيس للتلفزيون المصري، وكان صديقا لوالدي ورفيقا لعمي حسني الحديدي الذي كان يشغل منصب كبير المذيعين بالإذاعة المصرية في الستينيات.

جاء رد فعل د. لبيب مندهشًا أيضا: "إنت متأكد إن لميس عاوزة تشتغل في التلفزيون؟ ما هي بتشتغل في الصحافة الأجنبية"، ويؤكد له أبي ذلك بنفس الدهشة، وينقل له إصراري على تلك الخطوة.

وبالفعل، ذهبت إلى مديرة البرامج الإخبارية حينها، وبدأت عملي (بالقطعة) في قسم البرامج الإخبارية.

كان عملي حينها يقتصر على الذهاب للمكتبة وجمع المعلومات التي تستخدم في كتابة برنامج: "في مثل هذا اليوم"، وبعد ذلك عهد إلي أن أجمع الصور (الراشز) من المكتبة أيضا، وأسلمها للمسؤولة عن كتابة النص الذي تقرؤه إحدى المذيعات.

لم يكن ذلك حلمي؛ فقد كنت أحاول أن أصل إلى التقارير، إلى تغيير شكل التقرير التلفزيوني، لكن ذلك حينها بدا أصعب ما يكون، فقد كانت البيروقراطية حاكمة والتحديث مستحيلًا.

ستة أشهر، ووقّعت على استقالتي من المبنى الذي تمنيت دخوله طويلا.

وأذكر أنني لسنوات لم أكن أستطيع المرور من أمامه؛ فقد كنت أتفادى شعوري بالهزيمة في أولى محاولاتي وتحدياتي. لكن الحلم بقي نابضا، وعدت لتحقيقه بعد سنوات.

مرت بي التجارب الصحفية بين النيويورك تايمز والعالم اليوم ومجلة كل الناس، والتجارب التلفزيونية التي بدأت فيها تطبيق ما تعلمته في إم بي سي، ثم الجزيرة، والعربية وسي إن بي سي عربية، حتى لاحت الفرصة من جديد، وبالتحديد في نهاية ٢٠٠٥.

كان التلفزيون المصري حينها قد بدأ في استعادة رونقه، وخاض المنافسة ببرنامج "البيت بيتك" الذي حشد له وزير الإعلام حينها أنس الفقي أهم الإمكانات وأكبر المذيعين، وتدريجيًا بدأ ماسبيرو- بقنواته المختلفة- يستعيد المشاهدة والإعلانات مع فتح مساحة جيدة لمناقشة أحوال الناس، من خلال برامج مختلفة أعادت المشاهد لشاشته الأولى.

عدت إلى ماسبيرو مرة أخرى، لكن هذه المرة بخبرة صحفية وتلفزيونية إقليمية ومتنوعة.

كان ماسبيرو هو بداية انطلاقي الحقيقي، هذه المرة لأقدم برنامجا حواريا أسبوعيا (اتكلم)، وكانت الحلقة الأولى في ديسمبر ٢٠٠٥، مع المعارض الوفدي منير فخري عبدالنور، بعدها كان يوسف بطرس غالي في الحوار الأشهر الذي قال فيه: "أنا ميكانيكي اقتصاد". وتوالت الحوارات: أول حوار لجمال مبارك، أول حوار للعالم رشدي سعيد والذي دق حينها ناقوس الخطر عن أزمة المياه من ٢٠٠٦، أول حوار للدكتور محمد البرادعي، بعد حصوله على نوبل.

حوارات متعددة كانت الأجرأ مع البابا شنودة وما كان يدور بيننا من سجالات لا يمكن أن أنساه.

زيارات ميدانية للمحافظات المختلفة وبالذات الصعيد المنسي حينها وقراه التي كانت ضمن الأفقر في تقارير التنمية البشرية، وزيارات خارج مصر لغزة عقب القصف الإسرائيلي ٢٠٠٩، كان "اتكلم" علامة فارقة ومهمة بالنسبة لي، وأظن أنني تمكنت به من فتح مساحة حوار لا بأس بها لم تكن موجودة من قبل على تلفزيون الدولة.

استمر برنامج "اتكلم" حتى ٢٠١٠، بدأت بعدها رحلة جديدة في برنامج "من قلب مصر" الذي كان يعرض ثلاثة أيام على النايل لايف، وتوقف في مارس ٢٠١١ عقب ثورة يناير.

لم يكن ذلك فقط مشواري مع ماسبيرو، لكن شهر رمضان كان جزءا مهما من ذلك المشوار. فقد قدمت من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٠ أربعة برامج حوارية قصيرة كانت حينها الأكثر مشاهدة، طبقا للاستفتاءات وتقارير الإعلانات.

كانت التجربة الأولى في ٢٠٠٧ "مانع وممنوع"، ثم "الاختيار الصعب" ٢٠٠٨، "فيش وتشبيه" ٢٠٠٩ (والذي أنتجه طارق نور، وملأ وقتها الشوارع بإعلانات عنوانها مين يقدر على لميس؟) وأخيرًا "دوام الحال" في ٢٠١٠ وكأنه كان يستشرف واقعا سيتغير قريبا، وقد كان.

لم تتعدَّ تلك البرامج ٢٥ دقيقة يوميا (كانت تصل إلى ساعة بالإعلانات) تعرض عقب الإفطار مباشرة، وتعتمد على الحوار الساخن المباشر ومواجهة الضيوف من كل الأطياف السياسية المصرية والعربية والفنانين والرياضيين ورجال العمال والشخصيات العامة. ١٢٠ ضيفا والأسماء كانت كثيرة: صباح، وديع الصافي، راغب علامة، وليد جنبلاط، أحمد الريان، محيي الغريب وزير المالية الأسبق، هدى عبد الناصر، جمال مروان، د. فتحي سرور، حنان ترك، رقية السادات وتقريبا أغلب الوزراء الحاليين والسابقين، المهم أن تكون صانعًا لحدث أو خبر.

وما زال معلقا على جدران غرفة مكتبي الكاريكاتير الذي شرفني به الرائع مصطفى حسين في جريدة الأخبار والذي رسمني فيه أتقلد المراكز الأولى والثانية والثالثة لبرنامج مانع وممنوع.

ما زلت أذكر سهراتنا في التصوير قبيل رمضان وفي غرف المونتاج، ثم بعد وصول تقرير الرقابة. وكان الكابوس أن يصلنا التقرير مزركشا باللون الأصفر؛ فذاك يعني أن المحذوفات كثيرة، وكانت معركتي اليومية مع السيدة منى الصغير، رئيس الرقابة حينها على الكلمات التي تحذف.

ورغم أنها كانت الأكثر تفتحا وتفهما ما بين الرقباء حينها، فإن جملتها كانت وما زالت في أذني: "ده التلفزيون المصري يا لميس له قواعد وأصول"، وكنت أجلس بنفسي لمونتاج الحلقات؛ فقد كانت بمثابة ابني الذي أريده أن يخرج في أجمل صورة دون تشويه بقدر الإمكان.

لماذا أذكر ماسبيرو الآن؟

ربما لحنينٍ للذكريات. ربما لأنني دائمًا أشعر بالامتنان للشاشة التي فتحت أبوابها لي ولكل من منحوني أولى فرصي الحقيقية.

أو ربما لأَنَّنِي أتمنى أن أراه منيرا، كما كان، وقد قرأت عن محاولات لإصلاحه... لا أدري!

لكن ما أعرفه أن معظم المذيعين الكبار والفنانين الأكثر تأثيرا والمهندسين الفنيين وأصحاب المهنة ومعظم الكبار حتى في القنوات العربية- هم من أبناء هذا المبنى العريق الذي يعلوه التراب الآن للأسف.

أحيانا يكون الإصلاح صعبًا، وأحيانا يكون التحدي كبيرا، لكن مكتبة هذا المبنى العريق وطرقاته وجدرانه لا تزال تضم أهم الأسماء وأهم الأحداث وأكبر المبدعين.

فلا تتركوه يموت واقفًا.

إعلان

إعلان

إعلان