لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 عندما يصبح الإنسان قصيدة حية!

د. أحمد عمر

عندما يصبح الإنسان قصيدة حية!

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 02 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل يمكن أن تكون حياة الإنسان قصيدة في ذاتها؟

هذا سؤال عرضه الدكتور يحيى الرخاوي في مقال له نُشر عام 1996 بجريدة الدستور في إصدارها الأول، وكان يحمل عنوان "جارودي روضة من رياض الجنة. وقد كتبه بمناسبة زيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودي للقاهرة، وهو الفيلسوف الذي ولد في 17 يوليو 1913، وأعلن إسلامه عام 1982، وصار بعد ذلك موضع اهتمام دوائر الفكر والصحافة والإعلام في العالمين العربي والإسلامي، وبخاصة بعد أن نشر كتابيه "نداء إلى الأحياء" و "ما يَعد به الإسلام".

وقد كانت إجابته عن هذا السؤال بالإيجاب، واستشهد على صدق رأيه بحياة وشخصية "روجيه جارودي" الذي كان في ذاته وحياته، وبعيدا عن كل ما كتبه وعمله- قصيدة إنسانية حية رائعة.

ثم أخذ الدكتور يحيى الرخاوي في تحديد سمات تلك القصيدة ومقومات جمالها، وكان أبرزها من وجهة نظره أن روجيه جارودي لم يخن يومًا أحلام شبابه، ومجرد ألا يخون الإنسان أحلام شبابه رغم تغير المعارف والأحوال المادية والقدرة الإبداعية والقدرة البدنية، فهذا وحده يجعل حياة جارودي قصيدة إنسانية جديرة بالقراءة والتأمل والإعجاب.

كما أن جارودي كان ينطلق في حياته من إيمان صادق بكل ما يعتقده أو يقوله أو يفعله، فلم يكن هناك تناقض بين ظاهره وباطنه، ولم تحركه أبدًا في حياته وخياراته دوافع شخصية أو نفعية؛ لأن بحثه الأبدي كان عن المعنى، ولهذا رفض أن تكون الحياة بلا معنى أو بمعنى زائف يستند إلى قيم ودوافع غربية كمية واستهلاكية قبيحة.

ولهذا طاف جارودي في الحياة، وفي عالم الأفكار والمعتقدات والأديان، وكتب وحاور الناس، وسُجن وعذب وحكم عليه بالإعدام، ورفض الجنود المسلمون في الجزائر تنفيذ حكم الإعدام فيه؛ لأنهم يخافون الله، وكل طوافه هذا كان لهدف واحد هو أن يجعل لحياته معنى، ولوجوده قيمة مضافة للإنسانية.

وفي النهاية، فقد صار جارودي قصيدة إنسانية شديدة الروعة، لأن حياته كانت نتاج خياراته الحرة، فلم يقبل أن يفرض عليه أحد أمرًا يجعله على نقيض ما هو عليه، وغريبًا عن ذاته وقناعته. ولأنه اعتبر الموت الذي سوف يأتي في نهاية الرحلة كمال حياة مشبعة بالأبدية، وهو أبدية معيشة، صامتة وجميلة، وفيه عودة "الأنا الصغير" إلى "الواحد الأحد.

رحم الله الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي الذي توفي في الثالث عشر من يونيو عام 2012، بعد حياة متخمة بالثراء الإنساني والروحي والفكري، وهي حياة تثبت صدق رأي الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، الذي يقول: "الشعر رجل فارس، وليس قصيدة مكتوبة".

وكم نحن بحاجة في زماننا هذا الذي صار عنوانه السطحية والفهلوة والقبح والابتذال، وخيانة القيم والمبادئ الإنسانية، والازدواجية والتناقض بين الظاهر والباطن، بين ما يقوله الإنسان ويدعو الناس إليه وبين ما يفعله في الحقيقة- أن نعود للتوقف مليًا أمام مثل تلك الشخصيات الإنسانية النادرة، والتأمل في منجزها الروحي والفكري والوجودي، لعلنا نستعيد إيماننا من جديد بالإنسان وفروسيته، وقدرته على السمو والارتقاء نحو آفاق إنسانية أكثر عمقًا وثراءً وإلهامًا للآخرين، لنقول له: توقف قليلًا، كم أنت جميل أيها الإنسان أحيانًا.

إعلان

إعلان

إعلان