لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"يني نوحه".. زائر الليل الغريب

عصام خضيري

"يني نوحه".. زائر الليل الغريب

عصام خضيري
09:00 م السبت 06 يوليه 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كلمتان غامضتان تخترقان سكون آخر الليل في حارة خالية من المارة؛ خالية حتى من الكلاب الضالة.

الجميع نائمون.. صدى الصوت يتردد. اللكنة ليست معروفة، واللهجة غير مفهومة.

فجأة يعلو الصوت: "يني نوحه.. يني نوحه".

بات الآن أسفل نافذتي مباشرة، الفضول قاتل والنوم سلطان، لم أقاوم كثيرًا حتى جذبني الفضول إلى شباك غرفتي.

نوافذ البيوت المقابلة موصدة، والشُرفات مسدودة.. سكون الحارة بدا لي مهيأً لاستقبال يليق بضيف غريب، ضيف غير مرحب به.

هل السبعة الرائعون قادمون؟

اتخذت حصنًا لأحتمي.. متى يظهر الرماة المهرة؟؛ تذكرت قصة المزارعين الذين يتعرضون للاستغلال من قبل زعيم عصابة، فيذهبون لطلب المساعدة من رماة مهرة للخلاص منه.

الصوت مُتسارع لا يتوقف: "يني نوحه.. يني نوحه"، ويزداد معه الفضول والحيرة، أنا ساكن جديد في المنطقة بالمناسبة.

بدأ السكان يفتحون النوافذ.. سيدات مترهلات يرتدين قمصانًا، ورجال متجهمون بفانلات حمالات بيضاء اللون، وأطفال ساخطون يرتدون بكسرات.

نظرت إلى الأسفل؛ إلى مصدر الصوت مباشرة.

رأيت عجوزا يحمل صندوقا حديديا مغطى بالورق. ذهب عني هاجس العظماء السبعة.

لكن الحارة ما زالت ملبدة بالغموض، فلا أحد يتحدث.. والكل ينظر إلى العجوز، وكأنهم يعرفونه؛ لكن لا يتحدثون إليه ولا يحدثهم!

يستمر الغريب في المناداة، يفصل بين كلمتيه المبهمتين بأخرى حسبما سمعتها: "نوحا".. زادت الأخيرة الأمر تعقيدًا.

رغم النعاس الذي يسيطر عليّ، شاهدت العجوز يرتدي جلبابا صعيديا بني اللون، وعمامة بيضاء؛ ليست كبيرة الحجم مثل عمائم رجال الأقصر وأسوان، وعلى كتفه اليمنى يحمل الصندوق الثقيل، وبعض أوراق الكتب القديمة.

استدار إلى الخلف، ونظر إليّ تحديدًا! ثم ردد بصوت عالٍ هذه المرة: "يني نوحه.. يني نوحه"، وكأنه يقصد شيئًا ما.. هنا اعتقدت أنها تعويذة ساحر يرمي بها ضحاياه.

بانت لي ملامحه السمراء، وجسده النحيل مع خطواته الثقيلة المُتعبة من أثر التجول في الحواري.. رغم عمره الذي يتجاوز الستين عامًا، ولا يقل.

الساعة الآن تقترب من الثالثة صباحًا، والفجر على وشك أن يؤذن. لم أستطع تفسير ما يقوله.. ولا التعرف على محتويات صندوقه الغامض. وفجأة انطلق صوت ناعم من أحد طوابق البناية المقابلة ليّ: "يا بتاع الملوحة.. استنى"!.. صدمتي كانت كبيرة، والدرس أكبر.

أسئلة كثيرة عن الرزق والاجتهاد والعمل والتوكل دارت جميعها في ذهني عن هذا الرجل الستيني الذي يحمل صندوقًا يزن 50 كيلوجرامًا على الأقل من الملوحة.. ويجوب به الشوارع والحواري في توقيت متأخر من الليل!

ما كل هذا الإيمان والاجتهاد والصبر والرضا.. يا عم رضا!

إعلان

إعلان

إعلان