لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 ذلك السؤال.. أين تذهب هذا المساء؟

د.هشام عطية عبدالمقصود

ذلك السؤال.. أين تذهب هذا المساء؟

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 23 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

اعتاد قارئ الصحف فيما مضى وحتى وقت قريب أن يطالع عنوانا يتصدر بابا صغيرا في بعض الصحف الورقية اليومية، يسأل: أين تذهب هذا المساء؟ ليقدم له اختيارات عن أماكن للسهر وتمضية الوقت، بعضها كان يقدم ما تضمه دور السينما حينما كانت الوسيلة الوحيدة لرؤية ومشاهدة الأفلام السينمائية، وبعيدا عما جاد به العصر الحديث من الرؤية والمشاهدة من الوضع جالسًا في المنزل حسب الطلب ووفق المزاج، أو يضم بعضها توقيتات عروض وندوات ومنتديات ثقافية مسائية يوصي بها الباب الصحفي تقديرا من كاتبه لأهميتها أو حرصا منه على ترويجها.

وعموما فقد كانت عبارة أين تذهب هذا المساء تعبيرا متداولا إعلاميا انتقل أيضا إلى شاشة التليفزيون ليكون ماذا تشاهد هذا المساء وذلك حين كان التليفزيون "أبو زراير" سائدا وكان الريموت أعزك الله لم يعد بعد في الإمكان، وكان من مهمة الأبناء الصغار هي المشي ذهابا وإيابا من موضع الكنبة نحو التليفزيون والعودة لتحويل قرص التليفزيون بين قناتين وحيدتين.

ولما كان المساء قد تحول في الأزمنة الحديثة إلى بعض من نهار أو امتداد له تشكله الأضواء الكهربائية، فقد اختلف شكله عما اعتادت عليه البشرية قرونا وقد اختلف معه أيضا سلوك البشر وعاداتهم في التعامل مع الليل وتطويع ظلامه، ليكون مجالا للسعي والعمل وغير ذلك من تصاريف البشر وفق ما يهوى وما تقتضيه المعايش والشؤون.

يقول لنا ذلك شيئا مهما وهو كيف استطاع إنسان واحد هو المعروف في كشف العلوم بتوماس أديسون أن يغير الحياة البشرية ويضفي عليها قطيعة كاملة عما كان قبلها وعما مضى به البشر آلاف الآلاف من السنوات، وكيف تطور ما كان وقتها مجرد مصباح كهربائي بسيط يطلق ضوءًا خافتا ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه ويوازى ضوء النهار، لم يكن ما فعله منتميا إلى ما اعتاد الناس أن يخشوه ويترقبوه من فعل السحر والتمائم بل هو تجلى القريحة الإنسانية إذ تفكر فتتدبر.

ومع اختراع الكهرباء ظهر مع الوقت ما يمكن أن أطلق عليه ظاهرة الصوبة البشرية، والتي تعني أن المساء قد صار مجالا للكائنات البشرية النهارية الطابع تعيش فيه تعمل وتلهو وتحكي وتسهر ما شاء لها مقتضياتها وطلباتها في ظل ضوء الصوبة الكهربائية التي تحاكي ضوء النهار.

وهكذا صارت الأجيال تألف وتعتاد العيش في صوب النهار الصناعية المضاءة كهربائيا في كل مكان بعد اختراع السيد أديسون، وربما يكون ذلك أكبر وأهم تغيير جوهري وحقيقي وحاسم في تاريخ البشر والبشرية وفى تاريخ تغير العادات والطبائع والثقافات والسلوكيات، والذي صار ينمو ليستقر ويشكل جزءًا محوريا من ثقافة العيش تحت مظلة صوبة الأضواء الصناعية التي حولت ظلمة الليل "الطبيعية" إلى ما يشبه نهارًا ممتدا لا ينتهي إلا بفعل إطفاء الأنوار.

ولقد تغير تبعا لذلك إيقاعات الساعة البيولوجية للبشر، أي أنه حدث تغيير في نظام الـ"settings" البشري فيما يخص عناصر الصحو واليقظة، فقد أدت ظاهرة الصوبة المضاءة بيوتا وشوارع وأمكنة إلى اللعب في الإعدادات البشرية مزاجا وسلوكا لتحولها عن طابعها الفطري ونمطها المستقر الـ"default" لتنشأ كل تلك الحياة الليلية لتستمر وتستقر حتى لتوشك حياة الصوبة الليلية لدى البعض أن تكون هي مقتضى الحال.

ويكاد ما عرفه العالم منذ اختراع الكهرباء ودخولها حيز الاستخدام العام المنزلي أن يكون انقطاعا عن سيرة ومعايش الإنسان فيما هو قبل ذلك، لقد أطال من عمر النهار كثيرا واقتطع من فضاء الليل كثيرا أيضا، وجعل حيز المنام يفقد بعضا من سيرته الأولى وخيالاته وأساطيره، وربما يراجع البعض أثرا من بعض المساءات القديمة فيما دونته الكتب والروايات والأشعار وحكايات الرحالة لنعرف كيف سار البشر قديمًا تحت ضوء شعاعاتها يستظلون وبها يهتدون.. وتلك قصة أخرى.

إعلان

إعلان

إعلان