لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

«إلى النجوم» بافتتاح الجونة السينمائي.. كل إنسان يموت وحيداً

د. أمــل الجمل

«إلى النجوم» بافتتاح الجونة السينمائي.. كل إنسان يموت وحيداً

د. أمل الجمل
01:36 م السبت 21 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

رغم أن فيلم «جرافيتي» امتدحه النقاد كثيراً، ورغم أنه نال سبع جوائز أوسكار، وجائزة جولدن جلوب، ورغم كل ما به من جمال وإبهار على مستوى الموسيقى، وكذلك على مستوى المؤثرات، ورغم أهمية مخرجه المكسيكي، ألفونسو كوارون، فإن رأيي الشخصي أن فيلم (إلى النجومAd Astra ) للمخرج الأمريكي جيمس جراي، والذي عُرض بمهرجان الجونة السينمائي الثالث الممتد من ١٩ إلى ٢٧ سبتمبر الجاري- يظل الأهم والأعمق والأكثر إنسانية.

قلب وجوهر الأحداث يدور حول علاقة ابن بأبيه الغائب منذ ثلاثين عاماً. روي الذي يقوم بدوره براد بيت هو رائد فضاء يخاطر بحياته، ويقرر الذهاب إلى المجموعة الشمسية؛ بحثًا عن والده المفقود، رغم تعدد المشاهد واللقطات التي تُجسد الصراعات بين الجهات المتنافسة في مجال الفضاء، وفضيحة مشروع «ليما» الذي لم تعلن الجهات المسئولة عن فشله، ولجأت إلى تصوير قائد المشروع- والد روي- على أنه بطل من أجل إخفاء الحقيقة والتغطية عليها. رغم مشاهد التحقيقات والتقويم النفسي، لكن تظل العلاقة بين الأب والابن هي نواة هذه الدراما القوية التي تجمع بمهارة بين الكون الواسع، والمجرة الشمسة بكل تعقيداتها.

الوحدة، والتضحيات، وأسطورة الأب البطل الغائب تبقى الأفكار الأساسية التي يتم الدق عليها كثيراً طوال الفيلم. الوحدة التي يعيشها الابن، وحدة الأب، بل وحدة كل رائد فضاء. فالعمل يذكرنا بالرواية الألمانية «كل إنسان يموت وحيداً». والمخرج إلى جانب تفاصيل السيناريو نجح ببساطة مدهشة أن يُجسد هذه الوحدة بدرجة عالية من الرهافة والقسوة في آن.

هذا النجاح في إبراز الشعور بالوحدة تم عبر وسيلتين، البوح الذي يقدمه روي أثناء عملية التقييم النفسي التي يقوم بها، فالكلمات مختارة بعناية فائقة، تضع الشعور في صورة مجسدة مؤلمة تكاد تُعبر عن أغلب البشر الذي يعيشون الإحساس بالعزلة والوحدة. عبر عنها أيضاً بالتصوير وزوايا الكاميرات وحركة أبطاله، أي من خلال ميزانيسين الأشياء والأشخاص داخل الكادر.

هنا، يحكي روي عن وحدته، وعن قوة شخصيته، وصلابته، وقدرته على التركيز، فلا شيء قادر على أن يصرف انتباهه، ولا شيء يجعله متوترًا. إنه يمتلك مهارة عزل الأشياء التي تُشتت الانتباه.

لكن المأزق أن قدرته على عزل كل تلك المنغصات جعلته معزولاً أيضاً عن الآخرين، بل معزولًا حتى عن أقرب الناس إليه، هذه المهارة تحولت إلى أسوار تصنع سجن عزلته. إنها السبب الجوهري وراء وحدته. فهو بسبب عمله، وطموحه كان دوما غارقاً في أفكاره، ينبذ الأشخاص، ويطرده ببروده بعيدًا عن محيطه، يمنعهم من لمسه، حتى المرأة التي ارتبط بها، عندما كانت تلمسه نشعر أنه ينفر أو ينزعج أو يفزع. حبيبته نفسها تقول في أحد المشاهد: «كانت حياتي مرهونة به، بوجودك، أنا كائن مستقل، حر، لكني لم أكن أشعر بوجودك معي. حتى وأنت موجود كنت دائما غير موجود، كنت دوما غارقاً في أفكارك وشئون مهنتك».

إنه فيلم عن الإنسان وأعماقه وطموحه القاتل الذي من أجله يبيع كل شيء، عن الوحدة والعزلة القاتلة، البطل ذاته يعترف: «ما يظهر مني هو مجرد أداء خارجي. أحاول السيطرة على شعوري داخلي. لا أريد لأحد أن يقترب مني، ولا أن يلمسني، لا أريد لشيء أن يشتتني، إنني أركز في أداء مهامي وإنجازها، في الأشياء الجوهرية»، وأثناء ذلك البوح الصادق المؤثر نرى في الخلفية امرأة بعيدة- عند الباب- تنظر إليه طويلاً قبل أن تضع المفتاح وتخرج من محيط شقته.

الخروج الذي يشير إليه روي أثناء تقييمه النفسي عن الوعي يبدو كأنه متشظٍ ومتناثر في الكون أيضاً، فهو يقول: «لا أحد يشعر بما في داخلي. أريد أن أخرج، وجهتي دائماً نحو الخروج»، والخروج هنا يحمل بُعدا دلاليا مرتبطا بالخروج من أنانيته، الخروج من سجن وحدته، ومن أسر أبيه، خوفاً من تكرار نموذجه.

لقد ركز روي على عمله، ونجح فيه بشكل مهني رائع ومتفرد، لكنه أصبح غير قادر على ترك الناس في حياته، فهل حدث ذلك بسبب اختفاء والده عندما كان عمره ١٦ عاماً، وعانى نفسيا من هذا الغياب، مثلما شاهد آثار ذلك الغياب على والدته التي تألمت؟ فهل معاناته إثر الاختفاء المفاجئ والطويل لوالده الذي عاش يتخيله بطلا هو الذي جعله يرفض إنجاب الأطفال لئلا يكرر مأساته هو الشخصية.

الوحدة تتجسد أيضاً من خلال هيئة أغلب الشخصيات بالفيلم، إن لم يكن جميعها، فهم كأنهم منزوعو اللمسة الإنسانية؛ تبدو الشخصيات باردة، خالية من المشاعر، كأنها شخصيات مميكنة أو آلية. كذلك تتجلى الوحدة في أقسى صورهاً وأكثرها ألماً عبر التصوير البصري البديع خصوصاً أثناء لحظات الموت المتعددة أشكاله، وفي مقدمتها أثناء السقوط الطويل المدوي، حيث يتم تصوير رواد الفضاء في حالات فردية دوماً، فكل واحد منهم يسقط بمفرده، في لقطات ساحرة ومفزعة في تأثيرها، فكأن الجسد يهوِي في الفراغ، أو في بئر عميقة بلا نهاية. تصوير السقوط مخيف، لكنه أحد أجمل أشكال تجسيد الوحدة والعزلة.

ووسط كل ما سبق من دمار ومعارك وصراعات ونشوب النيران، عندما يتم التدفق الكهربائي من المجموعة الشمسية- بسبب تصرفات والده- فنرى آثار الخراب، والدمار، والانهيار. مع ذلك، لاحقاً نتساءل، خصوصاً مع مزيد من التحليل النفسي لشخصية البطل: هل غامر روي من أجل إنقاذ والده أم من أجل التحرر منه والتخلص من الأسر الذي عاشه طوال تلك السنوات؟! النهاية بالطبع ستحسم الإجابة.

أما الصراع بالفيلم، فيتجسد على مستويات عدة، صراع نفسي داخل روي، صراعه مع الأعداء بتعدد أشكالهم، صراعه مع والده من أجل إعادته والتحرر منه، وقبله صراعه غير المعلن مع المسئولين عنه، فروي يشعر أنهم يستغلونه. فقد كان يكذبهم ويرى أن والده بطل أسطوري، ثم اكتشف أنه قتل المجموعة المرافقة له من الباحثين والعلماء؛ لأنهم تمردوا عليه، حيث راح ضحية التمرد عدد من الأبرياء، لكن والده كان مصرا على تحقيق هدفه، على البقاء في رحلته حتى يكتشف المخلوقات التي يبحث عنها في المجموعة الشمسية.

أما الصراع مع الأب وصورته، فلأسباب مختلفة منها أنه لا يريد أن يكون نسخة منه، لكن المثير للتأمل أنه في بعض اللحظات يكاد يكرر نفس أخطاء أبيه، عندما يتقاتل مع طاقم السفينة الذين يرفضون أن يصطحبوه معهم في رحلتهم إلى المجموعة الشمسية. في البداية يقول إنه ليس عدوًا.. لا يريد الضرر، لكن لاحقاً عندما يرفضون ويبدأون في مهاجمته لا يتورع عن أن يقتلهم جميعًا. هنا يُصاب بالرعب من نفسه، من ثم يأتي تساؤله: «هل الأمر يستحق كل هذه التضحيات»؟

والتساؤل السابق يحمل دلالات متعددة المستويات، وليس فقط عملية القتل الذي أنجزها، ربما لذلك عندما انتهى من أمر والده أصبح كل ما يتمناه أن يعود إلى وطنه، أن يكون إلى جوار أناس يشعرون به؛ يتضامن معهم ويساندهم، وهم أيضاً يقفون إلى جواره، ويشاركونه مشاكله وهمومه.

إعلان

إعلان

إعلان