لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مِلِيْحَة وعيسى يوسف… والتحري عن الوجوه الخفية للسنوات الغابرة

د. أمــل الجمل

مِلِيْحَة وعيسى يوسف… والتحري عن الوجوه الخفية للسنوات الغابرة

د. أمل الجمل
06:44 م الأربعاء 30 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الأمر يكاد يُشبه التحقيق، والتتبع المجهري، بعد رفع البصمات، وجمع الأدلة ومحاولة استنطاقها، بحثًا وتنقيبًا عما وراءها. إنه تحقيق دقيق ينتهج كافة أحدث الوسائل التكنولوجية ومنها استخدام الكربون المشع. تحقيق وتحري يُنجز في أجواء من التشويق والترقب، والتأمل الممزوج بالدهشة التي لا يعايشها إلا من خاض تجربة العمل في قلب الطبيعة وخبر أسرارها.

لكنَّ المحققين، هنا، لا يتعاملون مع متهمين تقليديين، أو مشتبه فيهم، أو حتى شهود أحياء من لحم ودم، وإنما يتعاملون مع الأثر الذي وجدوه في جوف الأرض أو على سطحها بعد رحلة شاقة من العمل اليومي الدؤوب. أثر تختلف أحجامه وأشكاله وأعماره المتفاوتة بين العصور الحجرية والحديدية أو البرونزية. أثر يعود لآلاف السنين، صحيح أنه كائن جامد، لكنه مليء بالحيوات وينطق بلغات عدة لا يفهمها إلا هؤلاء المحققون، كلٌ على قدر علمه واجتهاده وشغفه.

جائزة الأثريين العرب

ومن بين هؤلاء المحققين النابغين يبرز اسم عيسى يوسف مدير إدارة الآثار والتراث المادي في هيئة الشارقة للآثار الذي قدم عشرات البحوث النظرية والتطبيقية، إلى جانب المحاضرات عن الآثار المكتشفة في منطقة مليحة وجبل بحيص، وجبل فاية، وغيرها الكثير من المناطق المختلفة بإمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة.

لكل ما سبق، لم يكن غريبًا أبدًا أن يمنحه - مؤخرًا -اتحاد الأثريين العرب - ومقره مصر- جائزة الجدارة العلمية للعام ٢٠٢٠. نال الخبير الأثري عيسى يوسف الجائزة تثمينًا لجهوده البحثية الوافية الدقيقة المستندة للتحليل والشروحات الرصينة في مجال علم الأثار. نالها، أيضًا، بسبب قدرته على استخلاص المعلومات والخروج بنتائج لها صداها وقيمتها المعرفية والإنسانية والتاريخية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي أيضًا، لكون النتائج حصيفة دقيقة بالغة الأهمية بشأن التنقيبات والمسوحات الأثرية والمحتويات الثرية، فالنتائج تقدم قراءات مشوقة وكاشفة للوجوه الخفية لتلك السنوات الغابرة، قراءات ذات أبعاد ودلالات اجتماعية وتاريخية واقتصادية للواقع الحضاري القديم للمنطقة منذ آلاف السنين.

إعادة قراءة التاريخ

فمثلًا تثبت الاكتشافات بأن هذه الفترات تميزت بتطوراتها المهمة والعلاقات التجارية المهمة، فالنصوص المسمارية المكتشفة تُعد «شاهدًا حضاريًا على التواصل الكتابي والمعرفي مع بلاد وادي الرافدين» وأثبتت الاكتشافات أن ساكني جبل البحيص عرفوا الطب والعلاج، والتجبير وإجراء بعض العمليات الجراحية، وهناك آثار تُعطي مؤشرًا على الاتصال الحضاري لمنطقة الخليج العربي من خلال الموانئ البحرية.

كذلك، تم العثور على العديد من المدافن، بأشكالها ودلالتها المختلفة، فإن كانت تُشير إلى التجمع البشري، إلا أنّها أيضًا تُثبت الحركة البشريّة في المنطقة، من خلال تنقلهم بين السواحل والمناطق الجبلية، إذ كان يُعتقد أن الوجود البشري مرتبط بالعراق وبلاد الشام وفلسطين، ولكن بعد الاكتشافات بمنطقة مليحة والبحيص تأكدت نظرية الهجرة الجنوبية من أفريقيا إلى آسيا، عبر باب المندب، ومن ثمَّ وصول البشر إلى جبل فاية، وكان المناخ السائد يساعد على الهجرة، مثلما تم العثور على أقدم حبة لؤلؤ مثقوبة في التاريخ في جبل بحيص، إذ عُثر في إحدى المقابر على ٦٤ حبة لؤلؤ تعود إلى العصر الحجري الحديث، والتي تُعد أقدم حبات مشغولة في العالم حتى الآن؛ لأنها مثقوبة، وهذا دليل على أن الإنسان استخدمها، ولعل أهمية الاكتشاف أنه يشي بالتطور الحضاري، وتفكير إنسان تلك المنطقة في ذلك العصر في توظيف اللؤلؤ في الزينة، كقلائد، أو كجزء من طقوس الدفن.

أن تكون على حافة آثار لا تكتشفها

على صعيد آخر تُثبت الاكتشافات الأثرية - وفق تصريح عيسى يوسف - أن «موقع مليحة الاستراتيجي في جنوب شرق الجزيرة العربية أسهم في ظهور مجتمعات مزدهرة في الفترة بين القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي، وكانت بمثابة محطة مهمة لمرور القوافل التجارية، ولعبت دورًا اقتصاديًا حيويًا في الربط بين الشرق والغرب وبين شمال وجنوب الجزيرة، وصولًا إلى وادي الرافدين في العراق وبلاد فارس وشبه القارة الهندية ومصر وأقطار ما حول حوض البحر المتوسط، مضيفًا: «يبدو أن المدينة كانت مركزًا مهمًا في شبه الجزيرة في التجارة العالمية التي تربط أقطار حوض البحر المتوسط مع أقطار المحيط الهندي».

الملفت أن تاريخ التنقيب الأثري بإمارة الشارقة ليس حديثًا، إذ يعود إلى العام ١٩٧٣، تنوعت هذه البعثات من مختلف البلدان من كندا وأوروبا. كانت كل بعثة تأتي وتمارس مهامها، وحين تنتهي مدة العقد أو المنحة تتوقف.

بعض هذه البعثات توقفت عن العمل وكان بينها وبين اكتشاف آثار جديدة بالغة الأهمية بضع سنتيمترات فقط، والتي تم العثور عليها لاحقًا، ربما بعد نحو ١٧ عامًا، بفضل جهود الخبير الأثري عيسى يوسف المعجون بالدأب والإصرار والشغف والذي ساعده في ذلك تطور وديناميكية القطاع الأثري في إمارة الشارقة التي عزّزت هذا بالعديد من الخطط والتوجهات المستقبلية، ودعمها للطاقات البشرية العاملة في المجال الأثري، واهتمامها بمفهوم السياحة الثقافية وإدراكها لخطورة مردودها الاقتصادي والوعي المعرفي.

يُميز عيسى أنه يُفكر في الأثر من دون أن يتخلى عن ثقافة بلاده، وأسلوب حياتهم، ونُظم معيشتهم، وتصميم بيوتهم وقصورهم، فهو دومًا يربط بين الماضي والحاضر، ويستعين بالتكنولوجيا الحديثة، ويظل يُواصل العمل إلى أن يصدق حدسه فاكتشف القصر، والعديد من القبور المهمة، سواء للبشر أو مدافن للخيول والجمال.

أُنصت إليه وهو يحكي عن اكتشاف إحدى الفخاريات الضخمة المهمة، وكيف أن جزءها العلوي كان مفقودًا، أنه ظل ينقب عنه طويلًا بشغف، لم يجده في حينها، لكن بحثه وإصراره هذا قاده أثناء ذلك إلى أن يعثر على اكتشافات أخرى، وكأن عنق هذه الآنية الفخارية الجميلة فُقد؛ ليكون غيابه دليلًا إلى اكتشافات أخرى شديدة الأهمية والقيمة الحضارية.

بعد عامين من كل تلك الاكتشافات كان ذهن عيسى يوسف لا يزال مشغولًا بالجزء المفقود من الآنية الفخارية، قال لنفسه: «إنها لم تخرج من هنا»، أحضر بعض العمال، سألهم عن الأماكن التي وضعوا فيها التراب المستخرج من الحفر. أخبروه أنهم وضعوه في بعض المناطق المجاورة، وبدأ عيسى مجددًا رحلة التنقيب بداخل التراب إلى أن عثر على غايته.

عيسى الإنسان

نتأمله أنا ورفاقي في الرحلة إلى جبل بحيص ومليحة، وجبل فاية، وهو يشرح لنا بسلاسة الفروق بين الرسومات وأنواع الحفر على الصخور، والفارق العمري بينها. نراه كيف يتعامل مع القطع الأثرية هناك، عيوننا تجوب المكان وسط طبيعة خلابة ساحرة، فجأة يلتقط صخور أو قواقع من الأرض -كنا لا نميز بينها- ويبدأ في شرح تاريخها والعصر الذي تنتمي إليه، ودلالتها، أو يقول: «هذه بقايا جمجمة صخرية»، وبعد أن نتأملها، أو نلمسها، يأخذها ويقترب من الأرض؛ ليُعيدها إلى مكانها كأنما يتعامل مع طفل هش رقيق. أجمع كل من بالرحلة من أسلوبه المدهش في تعامله مع قطعة الأثر، وقوة ملاحظته وقدرته على التقاط الأثر بعين الخبير الواثق.

بعد انتهاء الرحلة الأثرية وزيارة المتحف -المؤسس بأحدث الوسائل التكنولوجية في عالم المتاحف- والتعرف على «تاريخ مليحة غير المدون» اصطحبنا عيسى يوسف إلى مقر استضافة الباحثين والبعثات العلمية، حيث وجدنا مكانًا مؤسسًا بكافة سبل الراحة، ومكتبة علمية ضخمة، وحديقة مترامية الأطراف تغمرها الأشجار والنخيل بظلها الظليل، ويجوبها الحمام والديوك والدجاج من مختلف الأنواع والبلدان، في تشكيل ساحر، إذ بمجرد أن دخل عيسى للمكان أقبلوا عليه في بهجة كالأطفال عندما يرون رب البيت قادمًا، وعقب تناولنا وجبة البرياني اللذيذة التي أعدها أحد العاملين الماهرين هناك، لمحت عيسى يأخذ بقايا الطعام في طبق، ويذهب إلى بيت الدجاج؛ لينثر الطعام بينهم فيسرعن في التهامه بسعادة. هنا فقط فهمت عمق العلاقة الإنسانية التي بناها هذا الرجل بينه وبين تلك الكائنات الجميلة، تلك العلاقة التي لا يمكن أن تنفصل أبدًا عن شغفه بعمله في التنقيب عن الآثار، فتحية تقدير له.

إعلان

إعلان

إعلان