- إختر إسم الكاتب
- محمد مكاوي
- علاء الغطريفي
- كريم رمزي
- بسمة السباعي
- مجدي الجلاد
- د. جمال عبد الجواد
- محمد جاد
- د. هشام عطية عبد المقصود
- ميلاد زكريا
- فريد إدوار
- د. أحمد عبدالعال عمر
- د. إيمان رجب
- أمينة خيري
- أحمد الشمسي
- د. عبد الهادى محمد عبد الهادى
- أشرف جهاد
- ياسر الزيات
- كريم سعيد
- محمد مهدي حسين
- محمد جمعة
- أحمد جبريل
- د. عبد المنعم المشاط
- عبد الرحمن شلبي
- د. سعيد اللاوندى
- بهاء حجازي
- د. ياسر ثابت
- د. عمار علي حسن
- عصام بدوى
- عادل نعمان
- علاء المطيري
- د. عبد الخالق فاروق
- خيري حسن
- مجدي الحفناوي
- د. براءة جاسم
- عصام فاروق
- د. غادة موسى
- أحمد عبدالرؤوف
- د. أمل الجمل
- خليل العوامي
- د. إبراهيم مجدي
- عبدالله حسن
- محمد الصباغ
- د. معتز بالله عبد الفتاح
- محمد كمال
- حسام زايد
- محمود الورداني
- أحمد الجزار
- د. سامر يوسف
- محمد سمير فريد
- لميس الحديدي
- حسين عبد القادر
- د.محمد فتحي
- ريهام فؤاد الحداد
- د. طارق عباس
- جمال طه
- د.سامي عبد العزيز
- إيناس عثمان
- د. صباح الحكيم
- أحمد الشيخ *
- محمد حنفي نصر
- أحمد الشيخ
- ضياء مصطفى
- عبدالله حسن
- د. محمد عبد الباسط عيد
- بشير حسن
- سارة فوزي
- عمرو المنير
- سامية عايش
- د. إياد حرفوش
- أسامة عبد الفتاح
- نبيل عمر
- مديحة عاشور
- محمد مصطفى
- د. هاني نسيره
- تامر المهدي
- إبراهيم علي
- أسامة عبد الفتاح
- محمود رضوان
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لم يكن في البيت شيء يؤكل للآدميين. كانت الدجاجات الثلاث تنبش تراب الصالة الضيقة، بحثًا عن حبة قمح أو فتافيت خبز، بلا جدوى. قطة تموء فوق السطح من فرط الجوع، وعليها أن تفر إلى بيت آخر، لعلها تجد ما يملأ بطنها.
لا شيء هنا يفيض، أو يُلقى في غفلة، أو يتساقط من الأفواه، أو من بين الأصابع، فالأطباق الصدئة، يتم مسحها عن آخرها، وكسور الخبز الصغيرة، تلتقطها الأظافر الخشنة، وترميها في أفواه جائعة.
ولدان وبنت وأمهما، التي هي الأرملة النحيلة، يصارعون جوعًا ممضًا، ولا أحد يعرف من أهل القرية عن حالهم شيئًا. الأم لا تريد أن تطرق بيوت الجيران؛ لتسألهم عن أي شيء، فهي تعلم أنها بيوت خاوية، وإن كان هناك شيء فيها فهو يكاد ألا يكفي أهلها، كما أنه من العيب، بل العار، أن يتسول الناس في هذه القرية الصغيرة. عيب أشد قسوة من الموت جوعًا. فهي طالما سمعت حكايات نسوة جالسات أمام الدور وقت الضحى، يخضن بلا رحمة في تاريخ أسر تيسر حالها بعد فقر مدقع، عندما سافر الأولاد أو الأحفاد إلى خارج البلاد، فبنوا البيوت، واشتروا الأرض والبهائم، ولبسوا الثياب النظيفة، وعطروا أجسادهم بالروائح الطيبة.
كانت تنظر إلى أولادها، وترى من بينهم الذي سيكون يوما ميسور الحال، ولا تريد لأحد أن يأتي بعد سنوات طويلة، ويقول:
ـ كان وأخوته جوعى.
ولم ترد أن تخذل زوجها الطيب، الذي ألقى على سمعها وصيته الأخيرة:
ـ لا تجعلي أولادي يمدون أيديهم لأحد.
في الأيام الأخيرة، نسيها الخيِّرون، الذين كانوا يطرقون بابها، بين حين وآخر؛ ليعطوها كوز لبن، أو قبصة بتاو، أو صحن مملوء بالجبن الطري، أو المش، أو به كشك ناشف. هذا ليس عيبًا عندها، فكل أهل القرية يتبادلون المحاصيل وصحونًا من طعوم مختلفة، وهي لا تعدم وسيلة في الرد عليهم بما تجود به الأيام.
ففي مواسم الحصاد، يخرج أولادها ليعملوا في أرض الناس، ويأتوا في آخر النهار بحبات من البطاطس، أو أقداح من القمح والذرة، يمكنها خبزها، وتوزيع بعضها على الجيران، ممن تذكروها بقليل مما لديهم من خير.
كانت تعرف في هذه اللحظة أنه ليس في دارها سوى كيس نايلون صغير مملوء بالملوخية الناشفة، التي أتت إليها بها جارتها منذ أسبوعين.
ما عساها أن تفعل بها؟
هل تحضرها، وتعطي كل ولد منهم بعضًا منها فيسفه أو يبتلعه؟
هل يمكن لأي منهم أن يفعل هذا؟
ولو فعل، فهل هذا طعام يكيفه؟
وحتى لو سلقت البيضة التي باضتها الدجاجة الحمراء، فهل تكفي؟
فكرت بالفعل في سلقها وتقسيمها بين الأولاد؛ ليدخل إلي بطونهم الخاوية أي شيء، فلا تأكل عصارتها، أو تطحن الهواء الذي يدخلها مع كل شهيق عميق، وتكف عن إصدار هذه الأصوات التي تسمعها، وهم يقتربون منها، وصغيرهم الذي بلغ عامه الخامس ينظر إلى ثدييها الضامرين، متحسرًا على أيام الرضاعة.
جعلتها الحيرة تقف من جلسة استغرقت ساعات، وتدور في البيت ناظرة إلى الحوائط المتهالكة المشققة، التي يخرج منها البق في سواد الليل؛ لينهش جسدها، وأجساد أولادها، ويترك آثاره على جلدها، والأولاد معها. يغيظها هذا، فتنظر إلى تلك الحشرة البشعة التي تتوالد بلا حساب، وتتعجب من أنها حريصة على مص دم ليس فيه أي غذاء، بينما دماء الموسرين، التي تتدفق فيها كل عناصر الغذاء، لا يمصها شيء، فبيوتهم نظيفة، لا يمكن لهذه الحشرة اللعينة أن تسكن حوائطها.
بدت متعاطفة مع بق بيتها، الساكن في حوائط يلتصق بها أولادها، والفقير مثلهم. لكنها سرعان ما سخرت من نفسها، فهذا البق بوسعه أن يعيش على أي دم به غذاء دسم أو خالٍ منه، لكنها لا يمكن أن تعيش وأولادها على الجوع.
فبوسع هذه الحشرة أن تخرج من شقوق حوائط بيوت الغلابة، وتمضي على مهل في شوارع تغادرها أقدام السائرين بعد منتصف الليل؛ لتسكن بيوت الموسرين، لتجد دماء تسري فيها كل عناصر الغذاء. أما هي فلا يمكن أن تطلق أولادها؛ ليذهبوا إلى بيوت هؤلاء، فيجدوا من يقدم إليهم ما يملأ بطونهم.
يااااااااااااااه، جاء اليوم الذي تحسد فيه حشرة! من قبل كانت موجودة في شقوق البيت، وكان عليها أن تقاومها، لكن رجلها الذي كان يكد في غيطان الناس، كان يوفر لها أدنى حد من العيش، وكانت راضية، ففي صباها أعجبها، ولمَّا لمسها عشقته، لكن البلهارسيا اللعينة التي سكنت دمه أكلت كبده، ثم تسللت إلى روحه في ليلة عصيبة، فترك لها الغربة والجوع وأنين أطفالها الجوعى.
حتى البلهارسيا تجد ما تأكله، أما هي وأولادها لا يجدون شيئًا. لا تنسى يوم موت زوجها تلك العبارة التي قالها المقرئ بعد أن أنهى التلاوة، وبدأ يعظ الجالسين:
"الله يرزق الدودة السوداء، في الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء".
حفظتها عن ظهر قلب، كررها هو مرتين ليلتها، وكررتها هي آلاف المرات، ومع كثرة الترديد فهمت معناها جيدًا، حتى أنها صارت دعاءها. تتوجه إلى السماء، وتخاطب ربها:
"يا رازق الدودة في بطن الحجر، ارزقنا من واسع كرمك".
كان عليها أن تدبر حالها بأي طريقة، فالبطون الخاوية تصفر في رأسها هي، التي كانت مستعدة أن تربط حجرًا على بطنها.
لكن، ما ذنب أولادها في تحمل هذا الجوع القاسي؟
نهضت، ونفضت ثوبها المشبع بغبار الأرض، وصعدت إلى سطح البيت، وسحبت بعض الحطب الذي تجمعه دومًا من فوق الجسور العالية في الصباح الباكر مع روث البهائم الذي تصنع منه الجلة، فيظل لديها وقود لطهي طعامها، وجلب الدفء في الشتاء.
أشعلت النار في قبضة قش دفعتها وسط الحطب والجلة. صبت ماء غرفته من الزير القديم في حلة اِسودَّ محيطها الخارجي تمامًا، وتركته يغلي. رمت فيه حفنة من الملوخية الناشفة، وقليلًا من الملح، وقلبتهما. مدت يدها إلى فصوص ثوم وقشرتها، ثم دهستها في الهون النحاسي الصدئ، ورمتها مع ما يغلي، وقلبته كثيرًا، ووضعت الغطاء المتآكل، الذي لم يقدر على كبت البخار، فلا يذهب إلى أنوف العيال.
في النار التي كانت قد صفت قليلًا، دفنت البصلات الأربع وبيضة وحيدة كانت لديها، حتى شوتها، التقطتها وقشرتها وقطعتها بالسكين، وهرستها حتى صارت شيئًا يؤكل.
مد ابنها الأكبر أنفه نحو البخار المتصاعد من الحلة، وقال:
ـ رائحة ملوخية.
ابتسمت وردت:
ـ إبرة العجوزة.
نظر إليها وفي عينيه تساؤل، فعاجلته:
ـ هذا اسمها، ملوخية بلا سمن ولا زيت.
وجم قليلًا، وسألها:
ـ طعهما حلو؟
هزت رأسها، وأجابته:
ـ أي أكل في حنك الجوعان حلو.
مدت إليه ملعقة ساخنة مملوءة بطبيخها الغريب. نفخ فيها قليلًا، ثم رماها في فمه، وقال:
ـ طعمها حلو فعلًا.
ملأت صحنًا منها، وفي آخر وضعت البيضة الممزوجة بالبصل، وطلبت من أحدهم أن يغرف من الزير القريب كوز ماء، وقالت لهم:
ـ كل ملعقة طبيخ نشرب وراءها ماء، حتى تمتلئ بطونكم.
ثم التفت إلى السلم المؤدي إلى سطح البيت وقالت:
ـ لا تنسوا نصيب فرختنا الوحيدة، أما القطة فلها الله.
إعلان