- إختر إسم الكاتب
- محمد مكاوي
- علاء الغطريفي
- كريم رمزي
- بسمة السباعي
- مجدي الجلاد
- د. جمال عبد الجواد
- محمد جاد
- د. هشام عطية عبد المقصود
- ميلاد زكريا
- فريد إدوار
- د. أحمد عبدالعال عمر
- د. إيمان رجب
- أمينة خيري
- أحمد الشمسي
- د. عبد الهادى محمد عبد الهادى
- أشرف جهاد
- ياسر الزيات
- كريم سعيد
- محمد مهدي حسين
- محمد جمعة
- أحمد جبريل
- د. عبد المنعم المشاط
- عبد الرحمن شلبي
- د. سعيد اللاوندى
- بهاء حجازي
- د. ياسر ثابت
- د. عمار علي حسن
- عصام بدوى
- عادل نعمان
- علاء المطيري
- د. عبد الخالق فاروق
- خيري حسن
- مجدي الحفناوي
- د. براءة جاسم
- عصام فاروق
- د. غادة موسى
- أحمد عبدالرؤوف
- د. أمل الجمل
- خليل العوامي
- د. إبراهيم مجدي
- عبدالله حسن
- محمد الصباغ
- د. معتز بالله عبد الفتاح
- محمد كمال
- حسام زايد
- محمود الورداني
- أحمد الجزار
- د. سامر يوسف
- محمد سمير فريد
- لميس الحديدي
- حسين عبد القادر
- د.محمد فتحي
- ريهام فؤاد الحداد
- د. طارق عباس
- جمال طه
- د.سامي عبد العزيز
- إيناس عثمان
- د. صباح الحكيم
- أحمد الشيخ *
- محمد حنفي نصر
- أحمد الشيخ
- ضياء مصطفى
- عبدالله حسن
- د. محمد عبد الباسط عيد
- بشير حسن
- سارة فوزي
- عمرو المنير
- سامية عايش
- د. إياد حرفوش
- أسامة عبد الفتاح
- نبيل عمر
- مديحة عاشور
- محمد مصطفى
- د. هاني نسيره
- تامر المهدي
- إبراهيم علي
- أسامة عبد الفتاح
- محمود رضوان
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لا توجد أدنى صلة بين المقاوم والمرتزق، فالأول يقاتل من أجل قضية عظيمة، والثاني يشارك في المعارك من أجل منفعة مادية. والمقاوم يثبت على مبادئه ومواقفه طالما وافقت روح الجماعة التي يعمل معها، وتماشت مع القضية التي يؤمن بها، أما المرتزق فيبدل ولاءه حسب مصلحته، التي لا تخرج في أغلب الأحوال عما سيتقاضاه من أجر نظير حمل السلاح. وإذا سعى المقاوم إلى الحصول على مقابل مالي نظير مرابطته أو نضاله أو نزاله تحول إلى مرتزق، كما أن المرتزق بوسعه أن يكون مقاوما إن تخلى عن أجره، وعن الجيش النظامي الذي يقاتل في صفوفه، وانضم إلى أي حركة نضال شعبية، ترفع السلاح في وجه عدو خارجي أو حاكم جائر.
ويختلف المرتزق عن الجندي النظامي الذي يقاتل دفاعا عن وطنه، ويعتبر أن أداء الخدمة العسكرية الإلزامية واجب عليه كمواطن، وجزء أساسي من المصلحة القومية، التي تعود على الأفراد جميعًا بالنفع، حين يعيشون في اطمئنان ويمارسون حياتهم اليومية في أمان؛ لأن القوات المسلحة تحمي الحدود، وترعى الحمى، وتقف في وجه أي عدو طامع.
ولهذا فإن مختلف تعريفات المقاوم أو المناضل تتفق على إيجابيته وطهر مسلكه، وتحمل قدرًا جليًا من تشجيع الناس على أن يحذو حذوه. أما الارتزاق فيحمل صورة سلبية على الدوام، سواء في المعاجم اللغوية أو القواميس العلمية المتخصصة، أو عند مختلف المفكرين والمؤرخين والفلاسفة وخبراء الاستراتيجية الحديثة.
فها هو المعجم الوجيز مثلا يعرف المرتزقة بشكل عام بأنهم: "أصحاب جرايات ورواتب مقدرة" ويعرف مرتزقة الحروب بأنهم "الذين يحاربون في الجيش على سبيل الارتزاق، والغالب أن يكونوا من الغرباء". ويعرف ميثاق جنيف المرتزق Mercenary أنه فرد تم تجنيده بنزاع مسلح في دولة غير موطنه الأصلي، هدفه الأساسي هو التربح من اشتراكه في القتال، ولذا فهو يؤجر جهده وخبرته القتالية لمن يدفع له، ومن ثم فهو يفتقد إلى المشروعية التي تمنح للمقاتلين في الحروب العادلة، سواء كانت نظامية أو بواسطة مقاتلي العصابات والمقاومين.
وينتمي المرتزقة عبر التاريخ إلى المهمشين من البشر سواء كانوا فقراء معدمين أو لقطاء أو محاربين نظاميين مسرحين من الخدمة العسكرية. وتسيطر على المرتزقة روح الانتهازية والأنانية المفرطة والتعطش الدائم إلى الدم، وهم يفتقدون إلى معاني الفروسية ويفتقرون إلى الالتزام بما توجبه من سلوك أثناء الحرب، كما أنهم عديمو الضمائر، لا يحفلون كثيرا بالشرف والوطنية، ولا يتحلون بالشجاعة، وولاؤهم لمن يدفع أكثر، وهمهم الأساسي هو إرضاء من يؤجرهم، ولذا فإنهم يميلون بطبعهم إلى الخيانة.
وينصح ابن خلدون الحكام والسلاطين ألا يعتمدوا على المرتزقة في تثبيت أركان سلطانهم، وأن يوفروا الأموال الطائلة التي ينفقونها عليهم؛ لأنهم مهما أجزلوا العطاء لهم فإنهم ليس بوسعهم أن يضمنوا ولاءهم، وسيظل ملكهم مهددا طالما كان يحتمي في سيوف المرتزقة ورماحهم. وهنا ينتقد ابن خلدون السلطان المستبد الذي ينزلق إلى خصومة مع المحكومين و"يحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم، يستظهر بهم عليهم، ويتولاهم دونهم، فيكونوا أقرب إليهم من سائرهم وأخص به قربًا واصطناعًا، وأولى إيثارًا وجاهًا، لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم، فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ، ويخصهم بمزيد من التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية، وما يختص به لنفسه، وتكون خاصة له دون قومه من ألقاب المملكة؛ لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون، وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها، لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها، ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان، فيضغطون عليه، ويتربصون به الدوائر، ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء؛ لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها". ومعنى هذا باختصار شديد أن أي ملك يعتمد على المرتزقة في حمايته مآله الطبيعي هو الانهيار السريع.
ومن قبل كان الماوردي قد اقترب من هذا الرأي الذي تبناه ابن خلدون، فها هو يقول: "قد يجمع الملك الجنود ليكونوا له عدة على أعدائه، وجنة عند لقائه، فيكون فيهم هلاكه"، ثم يطالب الحاكم بأن يتفقد ظهور الفجور في عسكره ويقول: "لقد جرب هذا المعنى في غير واحد من عساكر الملوك، فوجد الأمر على ما قال، أعني أن ظهور الفجور كان أمارة لوشك البوار، وقرب الهلاك". ومع أن الماوردي لم يذكر صراحة في ثنايا رأيه كلمة "مرتزقة" فإن قوله يؤول إلى ما يرتبط بها من أفعال وعلاقات.
ويقف المفكر السياسي الإيطالي نيقولا ميكافيللي أيضا موقفا سلبيا من المرتزقة مشابها لما سبقه إليه ابن خلدون، ويقدح في دورهم ومسارهم، إذ إنهم في نظره عبء على الجيش وخطر على السلطة، وإن اعتمد حاكم عليهم فإنه سيظل مؤرقا وقلقا على سلطانه؛ لأن المرتزقة لا يعرفون التوحد خلف فكرة أو قائد، ولا يحفظون العهود والمواثيق، ولا يخشون الله، ولا يرعون الذمم مع غيرهم، وبينهم من يمتد طموحه إلى أبعد من الدور الذي رسم له وجيء به من أجله، وأغلبهم جبناء أمام العدو وإن تظاهروا بالشجاعة أمام من يدفع لهم.
أما وليم أولتمان فيهاجم المرتزقة بشدة؛ لأنهم "يمارسون أعمالا لا تخطر على بال، وأخطر بكثير مما يفعله الجنود النظاميون، ولا ينطبق عليهم ما ينطبق على البشر؛ لأنهم بلا مشاعر أو ضمائر"، ثم يتساءل: "من أين تأتي الضمائر لبشر مهنتهم القتل مقابل المال".
***
ويعود استخدام المرتزقة في الحروب إلى زمن غابر من عمر الإنسانية، وتحديدا إلى سنة 1288 ق. م، حين استخدمهم المصريون بقيادة رمسيس الثاني في معركة قادش ضد الحيثيين. وشجع أداؤهم في هذه المعركة فراعنة مصر على التمادي في استجلاب المرتزقة إلى صفوف الجيش المصري من أرجاء شتى، لا سيما بلاد الإغريق وما حولها. وقد أخذ ملوك بلدان أخرى هذا الأمر عن المصريين، من بينهم كورش الأصغر الذي استقدم عشرة آلاف مرتزق من بلاد الإغريق ليساعدوه في إقصاء أخيه الملك أرتحششتا الثاني وذلك عام 401 ق. م، فجاءوا مسرعين إلى بلاد فارس يتقدمهم زينفون تلميذ سقراط، وعيونهم على الذهب الذي سيحصلون عليه لقاء خوضهم هذه الحرب.
وبلغ اعتماد الجيوش النظامية على المرتزقة في الحروب مداه خلال معركة جوجاميلا 331 ق. م التي وقعت بين الفرس بقيادة الملك دارا والرومان بقيادة الإسكندر الأكبر. فكلا الجانبين اعتمد على أعداد هائلة من المرتزقة، سد به الفرس النقص الذي أصاب جيشهم جراء المعارك الطويلة التي خاضها، وزاد به الإسكندر من عدد جنده؛ ليصبح تحت إمرته جيش جرار يكافئ طموحاته التوسعية، ورغبته في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف.
وتوسع الرومان في تجنيد العاطلين عن العمل واستقطاب الراغبين في تأجير جهدهم ورغبتهم في القتال حتى أصبحت لديهم جيوش كاملة من المرتزقة، وظفوها في دحر أعدائهم، وتوسيع أرجاء إمبراطوريتهم. وقد كافأ الرومان المرتزقة على جهدهم هذا بسن قانون يسمح بمنح الجنسية الرومانية لكل غريب يرتدي البزة العسكرية وينخرط في صفوف جيوشهم.
وسلك القرطاجيون الدرب نفسه، فجلبوا مرتزقة من أجناس شتى؛ ليصبح جيشهم خليطًا من الغاليين والليبيين والفنيقيين والإسبان. وقد أدى هذا التنافر إلى خسارة الجيش لمعاركه، وعودة المرتزقة كاسفي البال، لكن الهزيمة لم تترك في نفوسهم أثرًا كبيرًا، لافتقادهم إلى الروح الوطنية، والغيرة على البلاد، ولذا تبلدوا في مواجهة الأهالي، واستأسدوا عليم فخنقوا الحريات العامة، وتحولوا إلى عالة اقتصادية وعبء نفسي وسياسي على المجتمع.
ولم يخرج البيزنطيون على هذا التقليد، فجعلوا غالبية جيوشهم من المرتزقة، إلى درجة أن الجيش الذي قاده بليزاريوس لقتال الوندال سنة 532 م كان ينتمي إلى أمم عدة. وتصاعد اعتماد البيزنطيون على المرتزقة إلى درجة أن صارت الفيالق الرئيسية في جيش إمبراطورهم جوستينان من البربر، بما في ذلك الفيلقان المسؤولان عن حماية الإمبراطور نفسه.
وحتى بعد أن وضعت الحروب أوزارها وعم السلم أوروبا سنوات طويلة لم يعانِ المرتزقة من البطالة، إذ استأجرهم بعض القادة والساسة، وشكلوا منهم جيوشا، استعملوها في السطو والسلب والنهب وبث الرعب في نفوس الرعية. وكان في مقدمة هؤلاء الساسة جيسكار أحد أفراد أسرة البارون، الذي قاد جيشا كبيرا من المرتزقة، قطع الطرق، وفرض الإتاوات وسرق الأهالي. وقد بلغ هذا الجيش قوة وتمكنا حدت بمؤسسه إلى أن يطالب البابا جريجوري الرابع سنة 1059 بأن ينصبه ملكا على إيطاليا. وبلغ الأمر أوجه بتكوين وليام الفاتح جيشا كاملا من المرتزقة ينتمون إلى الفرنسيين والإيطاليين والنورمانديين وغيرهم ليغزو بهم إنجلترا.
وتوحش المرتزقة في أوروبا إلى درجة أن فكر الحكام في عملية حربية كبيرة وواسعة تساعد في التخلص منهم، فكان قرار شن حرب "الفرنجة" التي يطلق عليها الغرب "الحروب الصليبية" والذي صادف غريزة المرتزقة النهمة إلى حصد الغنائم. وتعاونت الكنيسة مع هؤلاء الجند المأجورين على أوسع نطاق، حتى أن الحملة "الصليبية" الثانية وما بعدها اعتمدت أساسا على المرتزقة وبعض الرهبان. فلما أخفقت هذه الحملات الاستعمارية عادت أوروبا إلى سابق عهدها من المعاناة لتزايد سطوة المرتزقة، لا سيما أن بعض الملوك استعملوهم في قهر شعوبهم، وفرض الأمن، وقمع المعارضين للسلطة، والمتذمرين منها.
وقد أنعشت الحروب الطويلة التي نشبت بين المختلفين في المذاهب الدينية حركة المرتزقة بأوروبا، وجعلت من وجودهم أمرًا طبيعيًا، حتى بات الفرد منهم يحمل لقب "جندي". وتبوأت سويسرا الموقع الذي كان يحوزه الإغريق في تصدير المرتزقة، نظرًا لما أظهره المحاربون السويسريون من قدرة قتالية فائقة، بعد إخضاعهم لتدريبات عسكرية مكثفة تحت رعاية مقاتلين محترفين، حتى باتوا يعرفون بـ"مروضي وقاهري الملوك". لكن الارتزاق امتد أيضا إلى كل من هولندا وألمانيا وإنجلترا نفسها؛ ليصبح المرتزقة علامة مميزة في كل الحروب الأهلية والإقليمية.
وقد جلب لويس الحادي عشر ملك فرنسا أعدادًا غفيرة من المرتزقة السويسريين، ووقع مع المقاطعات السويسرية اتفاقية عام 1474 جعلت لفرنسا دون غيرها الحق في استخدام المحاربين في صفوف القوات البرية الفرنسية مقابل رواتب مجزية تدفعها الخزينة الملكية. وظلت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى عهد لويس الثاني عشر 1509، حتى خرقها البابا يوليوس الثاني، وجند ستة آلاف سويسري في "الحلف المقدس" الذي تزعمه لطرد الفرنسيين من إيطاليا. وتمكن المرتزقة من حسم معركة نافورا عام 1513 لصالح رابطة مالين التي كونها البابا ليو العاشر والإمبراطور ماكسيميليان فرديناند ملك إسبانيا ضد الحملة التي قادها ملك فرنسا فرانسوا الأول على إيطاليا. ولعبوا أيضا دور سلبيا في هزيمة الجيش الفرنسي في معركة بيكوك عام 1522 عندما غضب المرتزقة المنضمون إلى صفوفه من قرار قائده لوتريك بإخلاء مدينة ميلانو تحت ضغط هجمات الإيطاليين، فتمردوا عليه مطالبين بدفع أجورهم أو تسريحهم أو الدخول في المعركة للحصول على الغنائم.
واستعمل نابليون بونابرت المرتزقة في حروبه التوسعية، وشكلوا أكثر من نصف جيشه الذي حاول غزو روسيا عام 1812. وحين قامت الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1848 راحت تزيد من اعتمادها على العناصر الأجنبية ورجال المستعمرات في تشكيل جيشها، الذي بات لهذا يضم جنودا من بلاد المغرب العربي والهند الصينية وفيتنام وأفريقيا جنوب الصحراء، يتلقون رواتب شهرية، ويحصلون على مزايا وعطايا مقابل اشتراكهم في القتال من أجل مجد الإمبراطورية الفرنسية ومصالحها.
وشهد منتصف القرن التاسع عشر توسعًا في استعمال المرتزقة على يد الجمهورية الفرنسية الثالثة. وقد شكلت فرنسا فرقة ضخمة من المرتزقة سميت "الفرقة الأجنبية" بلغ عدد جنودها نحو ثلاثين ألفا، استعملتها في اجتياح الجزائر عام 1830، وكان أغلب هؤلاء من المجرمين الباحثين عن مأوى. وواصل الفرنسيون اعتمادهم على المرتزقة فقاتلوا إلى جانب الجنود النظاميين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي حرب فيتنام، قاتلت فرقة المرتزقة ببسالة حتى انسحبت القوات الفرنسية من هناك عام 1954، فأعيدت تلك الفرقة إلى الجزائر، وظلت هناك إلى أن أصدر الرئيس شارل ديجول قرارًا بحلها وتسريحها عام 1959، فساحت عناصرها في أفريقيا جنوب الصحراء التي كانت تشهد صراعات حادة أيامها، ووجد هؤلاء من بحاجة إلى طاقتهم وخبرتهم القتالية.
وحذت إنجلترا حذو فرنسا في هذا الشأن. فرغم أن لندن حظرت استعمال المرتزقة بموجب قانون صدر عام 1870 فإن بعض مواده تركت عن قصد الباب مواربا أمام العودة إلى الاعتماد على الجنود المأجورين، حين استثنت مجموعة دول الكومنولث البريطاني إلا إذا صدر أمر خاص من ملك بريطانيا إلى الحاكم العام في أي من هذه الدول. ومن هنا أتيح للسلطات البريطانية تشكيل فرق من جياع الهند، ووضعت ابتداء من عام 1904 خطة للارتقاء بمستواها القتالي، ثم أرسلتها إلى مختلف ميادين المعارك التي كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مشتبكة فيها دفاعًا عن ملكها المديد. وكانت في طليعة تلك الفرق فرقة من نيبال أطلق عليها اسم "كمكثوا" كانت مدربة تدريبًا متقدمًا أهلها لأن تكون بمثابة "قوات خاصة" تعمل في صفوف الجيش البريطاني. وقد أجرت بريطانيا بعض مرتزقيها إلى الدول حديثة العهد بالاستقلال، حتى تؤمن النخب الحاكمة هناك عروشها الجديدة. وكسبت لندن من وراء هذا أموالا وفيرة.
وكانت الفرقة الهندية السادسة في طليعة القوات البريطانية التي احتلت العراق، وحين راحت لندن توطد تواجدها العسكري على أرض الرافدين عقب الحرب العالمية الأولى عمدت إلى تأسيس جيش كامل من المرتزقة عرف باسم "جيش الليفي" كانت أغلب عناصره من الأكراد والتيارية الذين جلبتهم بريطانيا إلى العراق من الخارج. ووظف هذا الجيش في حماية بعض المعسكرات البريطانية، وذلك على غرار ما كان مطبقا في الهند آنذاك. وقد اتفق رئيس وزراء العراق نوري السعيد مع الإنجليز سرا على تشكيل حرس من قوات المرتزقة للقواعد الجوية البريطانية تتكفل الحكومة العراقية بنفقاته، فلما غادر الحكم طالب الإنجليز خلفه ناجي شوكت بالاستمرار في تنفيذ الاتفاق، لكن حكومته رحلت دون أن تبت في هذا الطلب.
ووصل الأمر إلى حد استقدام بريطانيا مرتزقة صهاينة إلى أرض العراق ليقفوا في وجه كفاح العراقيين لنيل استقلالهم، وكان هؤلاء ينتمون إلى منظمة أرجون الإرهابية، وساعدهم على دخول أرض الرافدين جلوب باشا القائد الإنجليزي الذي كان رئيسًا لأركان الجيش الأردني، وقاده في حرب 1948 ضد العصابات الصهيونية في فلسطين.
ولما ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى على المسرح الدولي سارت على الدرب نفسه، فاعتمدت على مرتزقة في حرب فيتنام، من بينهم طيارون تابعون لشركة "إير أمريكا" كلفوا بتنفيذ هجمات استفزازية ضد مواقع في فيتنام الشمالية، ثم تم استعمال مرتزقة من الأسيويين لضرب أهداف هناك بدءًا من 30 يوليو عام 1964، بغية استدراج الفيتناميين الشماليين إلى حرب واسعة النطاق، وهو ما تحقق بالفعل. وقد ظل المرتزقة يقاتلون إلى جانب القوات الأمريكية حتى انتهت المعارك بهزيمتها النكراء عام 1975.
لكن واشنطن عادت إلى استعمال المرتزقة في صراعها ضد الاتحاد السوفيتي المنهار إبان الحرب الباردة، وكانت أنجولا ساحة لهذه العملية. فالأمريكيون استعانوا بروبرتو هولدن زعيم الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا، والذي كان صهر الرئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا) موبوتو سيسيكو، فأجر عن طريق مكتب له بلندن مرتزقة كثيرين. ودخل النظام العنصري الحاكم آنذاك في جنوب أفريقيا على الخط وأرسل مرتزقة أفارقة وأوربيين إلى رجلهم في أنجولا وهو زعيم الاتحاد الوطني لاستقلال أنجولا جوناس سافيمبي. وكانت هذه العناصر جميعا بحاجة إلى قيادة فجاء دور عسكريين أمريكيين متقاعدين باحثين عن المال أو متعطشين للقتال، وانضم إليهم مرتزقة بيض من جنوب أفريقيا وأوروبا. وكان الجيش الأمريكي وقتها ينشر إعلانات لجلب متطوعين ينضمون على صفوف المرتزقة برواتب مغرية، وقد تم تجميع من تقدموا بقاعدة سان دييجو وحملتهم الطائرات إلى أنجولا.
ولم يعد تجنيد المرتزقة قاصرًا على الدول أو القادة العسكريين الرسميين، بل بدأ الأمر يسند إلى شركات خاصة منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم. ففي عام 1975 أسس ضابط بريطاني مطرود من الخدمة العسكرية يدعى جون بانكس شركة؛ لتصدير المرتزقة تحت لافتة "المنظمة الدولية لخدمات الأمن" لكن الظروف لم تسمح باستمرار هذه الشركة على قيد الحياة، لكنها سمحت باستمرار شركة مماثلة تم تأسيسها في الوقت ذاته على يد المرتزق العالمي بوب دينار تحت اسم "شركة ما وراء البحار للأمن والحماية". وسار كثيرون على الدرب الذي سلكه دينار حتى وصل عدد هذه الشركات في العالم أجمع حاليًا 100 شركة، منتشرة في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، منها خمسة وثلاثون شركة في الولايات المتحدة بمفردها، على رأسها شركة "بلاك ووتر" التي تمكنت من تجنيد ما بين 15 و20 ألف مرتزق للقتال إلى جانب القوات الأمريكية في العراق.
وقد أسس إريك برينس، الذي ينتمي إلى التيار المسيحي اليميني المتطرف في الولايات المتحدة، هذه الشركة، التي ولدت فكرتها في رأسه بين عامي 1995 و1996 حين كان يتدرب في أحد معسكرات البحرية الأمريكية، بينما كانت القوات المسلحة الأمريكية تفتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص للمساهمة في أعمال مساندة للجيش.
لكن شركة بلاك ووتر التي تعني "المياه السوداء" نسبة إلى المستنقعات المظلمة التي أنشئت في قلبها، لم تطفُ على السطح سوى عام 2002 تحت اسم "شركة بلاك ووتر للاستشارات الأمنية" مستفيدة من الأجواء التي أعقبت حدث الحادي عشر من سبتمبر، وإلى درجة حدت بأحد مسؤوليها المتنفذين أن يقول: "لقد ساعد ابن لادن على تحويل شركتنا إلى الهيئة التي هي عليها حاليا".
ويفتخر بعض قيادات بلاك ووتر بعضويتهم في أخوية "فرسان مطالة العسكرية، وهم مرتزقة مسيحيون متطرفون كونوا جماعتهم في القرن الحادي عشر الميلادي إبان الحروب الصليبية، للدفاع عن الأراضي التي استولى عليها الفرنجة آنذاك من العرب والمسلمين.
وراحت بلاك ووتر تستقطب المرتزقة من كل حدب وصوب، وفي صدارتهم مجموعة من رجال الكوماندوز السابقين في الجيش التشيلي، ثم أخذ نشاطها دفعة قوية بحصولها عام 2003 على عقد لحماية بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق آنذاك، أتاح لها أن تدفع 600 دولار يوميًا لأي جندي يتعاقد معها، بينما كانت تحصل هي من مموليها على نحو 1500 دولار عن كل جندي. ولم تكتفِ هذه الشركة بحماية المسؤولين الأمريكيين في العراق، بل شاركت في بعض المعارك، وأهمها معركة الفلوجة التي وقعت في نوفمبر من عام 2004 وارتكبت مجازر بشعة ضد المدنيين الأبرياء، حيث استخدم المرتزقة أسلحة وذخائر محرمة دوليًا.
وقد تزامل المرتزقة مع العسكريين الأمريكيين النظاميين في العمل على متن السفن الحربية الأمريكية في الخليج العربي أثناء حرب احتلال العراق. وكان هؤلاء ينتمون إلى أربع شركات عسكرية خاصة لديها خبرة في تشغيل بعض أنظمة التسليح الأكثر تعقيدًا في العالم. وساهمت هذه الشركات في تشغيل وصيانة الطائرات بدون طيار من طرازي "بريداتور" و"جلوبال هوك"، علاوة على القاذفات من طراز "بى-2"، التي بوسعها الاختفاء عن شاشات الرادار. ويحل المرتزقة محل الجنود الأمريكيين المقاتلين في كل شيء من الدعم اللوجستي إلى التدريب الميداني والاستشارة العسكرية في الداخل والخارج.
أما أول من أسس شركة مرتزقة أجنبية في العراق فهو الفرنسي فيليب لافون، الذي أدى خدمته العسكرية جنديا بالبحرية الفرنسية، ثم عمل مرتزقا في كوت دي فوار وزائير وجزر القمر وكوسوفا. وأقدم لافون على هذه الخطوة استجابة لطلبات كثيرة وملحة؛ لتوفير مرتزقة للخدمة على أرض الرافدين. وقد استأجر بناية فخمة في بغداد واتخذها مقرا لشركته، ثم راح يجلب مقاتلين مأجورين من هنا وهناك.
ويصل عدد شركات المرتزقة في الولايات المتحدة وحدها 35 شركة من بينها شركة "إم بي آر آي" التي تتباهى بأن عدد الجنرالات فيها أكبر من عددهم في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ذاتها. ورغم هذا العدد الكبير فإن الشركات البريطانية هي التي وردت المجموعات الأكبر من المرتزقة إلى العراق؛ لتحقق مكاسب طائلة خلال السنة الأولى لاحتلال العراق 2003 تعدت حاجز الـ5 مليارات دولار، إذ بلغت قيمة التعاقد السنوي مع المرتزق المحترف في العراق بين 80 إلى 120 ألف جنيه إسترليني. وتأتي شركات المرتزقة بجنوب أفريقيا في المرتبة الثالثة من حيث تصدير المقاتلين المأجورين إلى العراق، وجلهم يعملون إما سائقين، أو حراسًا شخصيين، وفي حماية طرق الإمداد، وحماية الموارد الثمينة، وغيرها من الشركات العالمية.
ووصل الأمر إلى حد تكليف الحكومة الأمريكية لشركة بلاك ووتر بأن تلعب دور "حارس بحر قزوين" للدفاع عن المصالح النفطية للولايات المتحدة هناك. ولهذا ساهمت الشركة في تدريب قوات البحرية الأمريكية في تلك المنطقة، وإنشاء قاعدة عسكرية ملاصقة لحدود إيران الشمالية مع أذربيجان.
وقد لفت التنامي السريع لدور بلاك ووتر وأخواتها نظر الأمم المتحدة فشكلت لجنة مكونة من خبراء حقوق إنسان مستقلين، فزارت خمس دول هي هندوراس وبيرو وتشيلي والإكوادور وجزر فيجي للوقوف على عمليات تجنيد وتدريب المرتزقة. وقد أعد هؤلاء تقريرا شاملا هو خلاصة عامين كاملين من العمل والتحري ذكروا فيه أن الشركات الأمنية الخاصة تمكنت من تجنيد عناصر من إسبانيا والبرتغال ودول أوروبية وروسيا وجنوب أفريقيا، وأنها توفر تدريبات عسكرية لمجنديها في كل من الولايات المتحدة والعراق والأردن؛ للقيام بمهام توكل عادة إلى الجيوش. ولهذا حذر التقرير من أن خصخصة الجيوش من قبل بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أدى إلى تنام مطرد في ظاهرة المرتزقة الذين يعملون تحت لافتات الشركات الأمنية الخاصة، ملتحفين بغطاء لفظي خادع يصفهم بأنهم مقاولون Contractors بدلا من اسمهم الحقيقي وهو مرتزقة.
ويتم كل هذا رغم أن بريطانيا قد سنت قانونا يحرم العمل الارتزاقي، وفعلت فرنسا الشيء نفسه، حيث أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية في 3 أبريل 2003 قانونا يعاقب المرتزق بالسجن 5 أعوام وغرامة 75 ألف يورو، وتضاعف العقوبة تجاه القائمين على تجنيد المرتزقة بالسجن 7 أعوام وغرامة 100 ألف يورو. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن المادة العقابية 959 من الباب 18 من القانون الأمريكي تنص على أن "أي شخص على التراب الأمريكي إذا انخرط أو التزم بتأجير نفسه أو استدعى شخصًا آخر أو حرض غيره على الانخراط أو الالتزام بخدمة جيش أمير أو دولة أو محمية أو منطقة أو شعب أجنبي كجندي أو قناص أو بحار على متن باخرة أو زورق حربي أو كان في طريقه إلى الحرب يعاقب بـ1000 دولار غرامة مالية كحد أقصى، أو بالحبس لمدة 3 سنوات، أو بالعقوبتين معا".
وطالما أن الحروب الاستعمارية التوسعية الجديدة قائمة، والحروب الأهلية والإقليمية محتمل نشوبها في أي مكان وأي زمان فإن دور المرتزقة سيظل مستمرًا.
إعلان