لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ساعة واحدة من حياة أسرة في زمن "كورونا"

د. عمار علي حسن

ساعة واحدة من حياة أسرة في زمن "كورونا"

د. عمار علي حسن
08:09 م الخميس 09 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يتمكن الإحباط من نفس "سعيد زيدان"، المحاسب بوزارة المالية، حين يسمع تذمر أمه من النهاية التي يفرضها عليها فيروس "كورونا" والتي لم تتوقعها أبدًا.

كانت تجهز ليوم دفنها أكثر مما جهزت ليوم عرسها. اشترت الكفن، وطلبت أن تخرج جنازتها من مسجد السيدة زينب، وحددت من لا يقبل حضورهن تشييعها، ومن عليه أن يحرص على قدومهن؛ لتوديعها، وأن يأخذ فيها عزاءين، واحدًا في "دمنهور" حيث مسقط رأسها، والثاني هنا في القاهرة. كانت تكرر هذا كل عدة أيام في صالة البيت، وهي تنظر إلى ابنها، وتقول:

ـ هذه وصيتي، فلا تضيعها.

وترمي طرف عينيها إلى زوجته، التي كانت تكتم امتعاضها، وتبلع لسانها. لكنها في أيام "كورونا"، انفجرت قائلة:

ـ لا أحد يعرف من سيموت أولًا.

ردت عليها غاضبة:

ـ الوباء يقتل كبار السن.

بلعت ريقها وردت عليها:

ـ قتل أطفالًا وشبابًا، بينما نجا منه أشخاص فوق التسعين.

وقفت غاضبة، تتكئ على عصاها الأبنوس، وقالت لها:

ـ استثناء يثبت القاعدة.

وأعطتهم ظهرها منصرفة إلى غرفتها، وهي تقول:

ـ تتعجل موتي بنت "سكينة".

كانت المماحكات بينهما تزعجه من قبل، حين يكون عائدًا متعبًا من شغله، أو يريد النوم مبكرًا استعدادًا ليوم عمل جديد، وعليه أن يقابلها بصراخ في زوجته كي تكف، ثم يرضيها حين تلحق به إلى غرفة النوم، أو بالتوسل إلى أمه كي تدخل إلى حجرتها، وتغلق بابها عليها. وكثيرًا ما كان يرسل نظرات إلى ابنته فتتدخل، فهي وحدها التي كان الطرفان يقبلان منها ما تقوله وتفعله وابتسامتها لا تفارقها، وينزلان على رغبتها، فيعود الهدوء إلى البيت.

في أيام الحجر والحظر لم يعد منزعجًا من هذه المماحكات، بل كان يتساوق معها، كاتما ابتسامته، وهو يتابع مباراة مكررة بين الحماة وزوجة ابنها، معتبًرا إياها جزءًا من تمرير الوقت، أو كسر الملل، حتى أنهما معًا كانا يستغربان موقفه، ويمضيان دون اتفاق معلن بينهما، على محاولة استفزازه، وجره إلى هذا الصراع الدائم، متوقعين أن يتدخل للتهدئة كالعادة، لكنه كان يفاجئهما بفعل العكس، ويصب على النار زيتًا، ويجلس مستمتعًا بالغمز واللمز وتبادل اللوم والتوبيخ.

كان ما يقلقه حقًا هو ابنه المسكين، فهذا الوحيد من بينهم الذي لن يتسبب في إيذاء أحد، فهو باق في البيت منذ سنين، لا يرى الشارع، إلا إذا أخذه أحيانًا في سيارته القديمة، ومضى به لترى عيناه مناظر مختلفة. لم يكن يعرف ما إذا كان هذا ضروريًا له أم لا؟ لكنه كان يرى في عينيه فرحة حين يطالع الشوارع المزدحمة، فأصبح موقنًا بأن الخروج يجعل قليلًا من التغيير يهب على حياته الراكدة، وربما يكون هو مستمتعًا بهذا، لكنه عاجز بالطبع عن التعبير.

لم تعد الشوارع على حالها، وصار ابنه، المصاب بشلل دماغي، في خطر أشد، فهو، وربما قبل أمه، إن وصل إليه الفيروس اللعين سيرديه قتيلًا في أيام، فمناعته الضعيفة ستجعل هذا الشرير اللا مرئي يتناسل جيوشًا في رئتيه الهشتين، ويلتهمها غير عابئ بمسكنته، وهوانه على الدنيا.

لن يستطيع أن يفعل له شيئًا، فكثيرون سعلوا وعطسوا وضاقت صدورهم، وقيل لهم:

ـ ابقوا في بيوتكم.

كانوا يعولون على أن مناعتهم الفتية ستصرع الفيروس، وترسله إلى الآخرة، إن كان له موت، مثل البشر. ابنه محسوب، وفق عمره، ضمن الصبية القادرين، فما إن يقول للهاتف الساخن الذي خصصوه لاتصال كل من يشك في أن الوباء قد هاجمه:

ـ عمره 18 سنة.

حتى سيسمع الرد سريعًا:

ـ اعزله في البيت.

ولو حمله إليهم في مستشفى "حميات العباسية" فقد ينظر إليه الأطباء في شفقة قائلين دون أن ينطقوا حرفًا:

ـ الموت أفضل له.

ولو وجد من يرق لحاله، ويضعه على جهاز تنفس صناعي، بعد أن تسوء حالته، كما هو متوقع، فإنهم لن يتركوه طويلًا، وسيفضلون عليه شخصًا يرونه سليمًا، وصالحًا للحياة. فما جرى وراء البحار مع العجائز، تسلل إلى هنا، رغم الامتعاض الشديد منه، وهذا الضجيج الذي يثيره البعض مستغلين ما جرى، حين يقولون:

ـ ألم نقل لكم إن الحضارة الغربية بائسة؟!

أما الذين يحسبونها حربًا، ويبررون فيها ترك من يرون أنهم لن يرُجى شفاؤهم ينزفون في ميدان المعركة حتى الموت وإسعاف أصحاب الجروح الخفيفة والمتوسطة، فإنهم سيعتبرون ابنه من الصنف الأول، ويتركونه يذهب إلى حتفه سريعًا.

إنها المرة الأولى في حياته التي يبدو خائفًا على هذا النحو، رغم إدراكه أن الخوف عمل غير طيب على جهاز مناعته الذي يجب أن يكون في كامل لياقته هذه الأيام، حتى إن أتى الغازي اللا مرئي، يكون على استعداد للصمود أمامه حتى يعلن هزيمته، ويرحل غير مأسوف عليه.

"كيف أقف في منتصف المسافة بين الخوف والاطمئنان؟"

سأل نفسه، التي لم تسعفه بإجابة محددة، إنما تركته يتخبط، وهو شارد في الفراغ الضيق الممتد من صالة شقته إلى سماء الشارع الذي خلا من الآدميين، باستثناء الشريد الذي يفترش سور ضريح سعد زغلول، وصار مرتعًا لكلاب لا تخاف شيئًا، بل صارت أكثر جسارة، ولأنها لا تعلم سر اختفاء الناس من الشوارع والحارات، فربما تقول لنفسها إن البشر قد انهزموا أمام نباحها على الرائحين والغادين.

إعلان

إعلان

إعلان