لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

نوستالجيا

د. جمال عبد الجواد

نوستالجيا

د. جمال عبد الجواد
08:35 م السبت 02 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تسرب صوت الراديو قادما من بعيد، حاملا لحن "شهر زاد"، لمؤلف الموسيقى الروسي ريمسكي كورساكوف. إنه اللحن الذي يعرفه ملايين المصريين من جيلي، بعد أن تم استخدامه لسنوات كمقدمة وخاتمة لحلقات ألف ليلة وليلة، التي اعتادت الإذاعة تقديمها في رمضان من كل عام.

أيقظ اللحن الجميل في نفسي ذكريات دافئة عن رمضان في ستينيات القرن الماضي، عندما كانت الإذاعة هي مصدر التسلية والتثقيف الرئيسي. كان جهاز الراديو هو منظم حياة العائلة في رمضان، وفي غير رمضان أيضا. قبل المغرب بنصف ساعة كان الراديو يبث آيات القران بصوت عذب لأحد شيوخنا الكبار. كان هناك أيضا صوت الشيخ رفعت تبثه إذاعة الشرق الأوسط قبل المغرب بعشر دقائق، فالشيخ رفعت مات قبل أن يسجل القرآن كاملا بصوته المميز، وإحساسه النادر. يختم الشيخ القراءة، فينطلق مدفع الإفطار. إنها لحظة عيد الصائمين اليومي الجميل، تلك اللحظة التي ينتظرها الصغار طوال اليوم.

كنت من المحظوظين، فأنا أسمع المدفع مرتين، مرة من القلعة القريبة، ومرة من الإذاعة، حيث كان مدفع الإفطار بداية لوجبة رائعة من التسلية الراقية. يضرب المدفع، وينتهي الشيخ من آذان المغرب، ليعقبه دعاء جميل بصوت أحد كبار الفنانين، أو بصوت الشيخ النقشبندي الذي يحملك معه إلى ذروة روحانية. يحدث هذا فيما نحن نكسر الصيام ببلحات يابسة، وما تيسر من الخشاف، في أيام تعذر فيها الحصول على قمر الدين والقراصية وخلافه بسبب صعوبات الاستيراد وتوفير العملة الصعبة.

ننتهي من الخشاف، ونبدأ الطعام على صوت القديرة آمال فهمي وهي تقرأ الفزورة، وهي فقرة ظلت تقدمها في كل رمضان لسنوات طويلة متتالية. تقرأ آمال فهمي الفزورة مرة، ثم تقرأها مرة أخرى، قائلة "نقول كمان"، فيزداد التركيز لكي نحل طلاسم وألغاز الكلام الغامض، فهذه هي فرصتنا الأخيرة، فلم يكن من الممكن تسجيل الفزورة والاستماع إليها ثانية بعد ذلك، أو البحث عنها على شبكة الإنترنت التي لم تكن موجودة، ولا حتى كفكرة في ذهن أي أحد على ظهر الكوكب. في مرحلة لاحقة لجأت إحدى الجرائد لنشر نص الفزورة في اليوم التالي كطريقة لتسويق الجريدة وتشجيع القراء على شرائها. كان للفزورة جوائز متواضعة لا تزيد عن بضعة جنيهات، لكنها كانت كافية لكي يرسل مئات الألوف في نهاية الشهر خطابات تحمل إجابة ثلاثين حلقة من الفوازير، علهم يفوزون بإحدى الجوائز القليلة.

يعقب الفوازير الحدث الأهم؛ إنه ذلك المسلسل الكوميدي اليومي الذي يلعب دور البطولة فيه فؤاد المهندس وغيره من نجوم برنامج "ساعة لقلبك" الشهير، الذي قدم لنا أهم نجوم كوميديا الستينيات. شنبو في المصيدة، وأخطر رجل في العالم، وكل هذه السلسلة الطويلة، التي ظهرت أولا كمسلسلات إذاعية قبل أن تتحول إلى أفلام سينمائية.

ألف ليلة وليلة كانت تأتي بعد ذلك، فتسمع أولا المقدمة الموسيقية من سيمفونية كورساكوف، ثم صوت زوزو نبيل المميز، أو شهرزاد، قائلة "بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد"، لتبدأ في رواية جزء جديد من القصة للملك السفاح شهريار، لتلهيه عن قتل الحسناوات. كان المرحوم طاهر أبو فاشة هو صاحب القلم الرائع الذي كتب المئات من حلقات ألف وليلة، التي دارت كلها حول الصراع بين الخير والشر، في عالم أسطوري مليء بالسحرة والمشعوذين والوحوش والكائنات الخرافية والناس الطيبين والملوك الحيارى والوزراء الأشرار والقلاع المسكونة والأشجار الناطقة. عالم سحري رائع سبق به طاهر أبو فاشا العوالم الأسطورية التي قدمتها السينما العالمية بعد ذلك في أفلام هاري بوتر وملك الخواتم وغيرها؛ فلعل أحدهم يعيد اكتشاف هذه الكنوز، ليقدمها مرئية في السينما أو التليفزيون.

بعد ولادتها بفترة قصيرة بدأت إذاعة الشرق الأوسط تنافس للفوز ببعض من انتباه المستمعين في رمضان. كانت الشرق الأوسط إذاعة الشقاوة وخفة الدم، التي يتحدث مذيعوها العامية بسرعة تناسب الشباب، كما لو كانت النسخة المسموعة من مجلة صباح الخير التي ظهرت، وحققت نجاحا كبيرا، قبل ذلك بسنوات قليلة في منتصف الخمسينيات. كان في إذاعة الشرق الأوسط تحرر لا تجده في البرنامج العام، الناطق الرسمي باسم الدولة المصرية، ولهذا قدمت الشرق الأوسط مسلسلات رومانتيكية واجتماعية جريئة، بعضها مأخوذ من قصص الرائع إحسان عبد القدوس مثل "أنف وثلاث عيون".

لم يكن البرنامج الرمضاني للإذاعة المصرية ينتهي عند هذا الحد، لكن الطفل الصغير كان يخلد إلى النوم، قبل أن يوقظوه مرة أخرى للسحور، ليسمع في اليوم التالي إخوته الكبار يتحدثون عن مسلسل آخر، فيه الكثير من المغامرات والحبكة البوليسية، يقدمه صوت العرب في ساعة متأخرة من الليل، فبقي حكرا للكبار. ظل الطفل الصغير يحلم باليوم الذي يدخل فيه إلى عالم الكبار المليء بحكايات الليل وآخره، فلما دخله غلبه الحنين إلى الأيام الأوائل.

إعلان

إعلان

إعلان