لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الشيشة باقية، لكن الكنافة مهددة بالانقراض

د. جمال عبد الجواد

الشيشة باقية، لكن الكنافة مهددة بالانقراض

د. جمال عبد الجواد
10:42 م الجمعة 22 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. جمال عبد الجواد
كل سنة وانتم طيبين. العيد غدا أو بعد غد، والكلام الجد لا يجوز في هذه الأيام السعيدة خفيفة الظل، خاصة في وجود الضيف الثقيل المسمى كورونا، والذي يجاهد ليحرمنا فرحة العيد، ولكن هيهات. سأكتب اليوم عن الشيشة والكنافة؛ الأولى استطاعت الانتصار على الزمن والتغير الاجتماعي وتحذيرات السلطات الصحية من التدخين، أما الثانية، فرغم الوله الذي يكنه المصريون لها، فقد دخلت في أزمة بقاء، بعد أن أحاطت بها عوامل الانقراض.
عشق الراحل جمال الغيطاني القاهرة القديمة، وأحب كل ما ارتبط بها، وكانت الشيشة من ضمن ما أحب. في كتابه عن القاهرة في ألف عام، كتب الغيطاني فصلا عن النرجيلة، وفيه تحدث بإسهاب عن علاقته بها. تعرف الغيطاني على النرجيلة في السبعينيات، فأحبها "كصديق صامت، يأنس إليه الفؤاد عندما ينوء تحت وطأة الأحزان والأكدار، صديق يساعد العقل على التركيز، واقتناص شوارد الفكر من هنا وهناك، بدون أن يفرض مطالب خاصة، أو إزعاجات، أو يمر بمراحل التقلب من حب وكره وبغض، إذا ما تضاعفت الوحدة تبعث قرقرة المياه ونسة، وتوحي الجمرات المتوهجة بحدود عالم سحري مبهم".
كتب الغيطاني عن التبغ الذي ظهر في مصر لأول مرة عام 1012 من الهجرة، أي حوالي سنة 1603 ميلادية، فحرمه معظم علماء المسلمين، وإن كان ذلك لم يوقف انتشاره بين الناس. بعد ذلك بحوالي 140 عاما أصدر الوالي العثماني أمرا بمنع التدخين، ونزل مع معاونيه إلى الشوارع لمتابعة تنفيذ قرار المنع بنفسه، حتى أنه كان يعاقب المدخن بإطعامه الحجر الذي يوضع فيه الدخان بما فيه من نار؛ ومع هذا واصل الناس الإقبال على التبغ، وتعصب له المتصوفة، وكتب فيه أحدهم قصيدة قال فيها
هات اسقني التبغ إن نبع الصفا سحرا
حتى أضرر منه وهو إغشاء
والنرجيلة مشتقة من لفظ "النارجيل"، الاسم الذي يطلق على ثمر جوز الهند، وترجمته الحرفية هي الجوزة، وهو الاسم الذي تعرف به النرجيلة الشعبية في مصر، لأنها كانت مكونة فعلا من ثمرة جوز مفرغة، تثقب ثقبين، واحد للحجر، وواحد لأنبوب التدخين.
تطورت أساليب تدخين التبع عبر السنين، ووصف الغيطاني النرجيلة كما عرفها وأحبها في القاهرة في سبعينيات القرن العشرين، لكنه لاحظ بأسى انزواء النرجيلة في مقاه قليلة، وتنبأ بأنه لن يمضى زمن طويل حتى يولي عصر النرجيلة تماما. كرر الغيطاني هذه النبوءة المتشائمة لمستقبل الشيشة عدة مرات في الفصل القصير المنشور عام 1997. لكن ما إن دخنا القرن الواحد والعشرين، إلا وكانت النرجيلة تستعيد شعبيتها من جديد، فأصبحت صنفا دائما في المقاهي التي يرتادها رواد من مختلف الطبقات الاجتماعية، وحققت النرجيلة شعبية هائلة في أوساط الجنس اللطيف، وبعد أن كان تدخين النساء لها مستهجنا قبل عدة سنوات، لم يعد تدخين النساء للنرجيلة يلفت نظر أحد، بعد أن أصبح أمرا عاديا؛ وبالجملة فقد بعثت النرجيلة من جديد، ولولا نكد كورونا لضاقت المقاهي بعد الإفطار بروادها الذين جاءوا طلبا للشيشة بعد حرمان يوم الصيام الطويل.
بقيت الشيشة لكن الكنافة دخلت في منطقة الخطر. وصلت لهذا الاستنتاج عندما ذهبت للحلواني الشهير لشراء صينية كنافة، صينية كنافة عادية، عادي يعني، من تلك التي يتم صب العسل عليها بعد إنضاجها في الفرن، لكني لم أجد هذه الكنافة العادية، المحشوة بلا شيء، فكل الموجود هو كنافات بالنوتيلا والكرملة والمانجو وأشياء كثيرة أخرى. تكرر الموقف نفسه عند أكثر من حلواني شهير، فتبين لي أن الكنافة العادية بتاعتنا أصبحت "بيئة"، لا يجوز للكبراء شرائها، ولا يليق بمحلات الحلويات الفاخرة تقديمها؛ ففهمت أن الناس في "مدينتي" لا يحبون الكنافة العادي البلدي، وأن البعض من البسطاء راحوا يتشبهون بهم، الأمر الذي أدخل الكنافة التقليدية في قائمة الأصناف المهددة بالانقراض، خاصة بعد أن فقد الكثير من النساء مهارة صنع الكنافة في البيت، ولولا بعض الحلوانية في الأحياء الشعبية لانقرضت الكنافة العادية تماما. وكل عيد وأنتم بخير.

إعلان

إعلان

إعلان