لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أبعد من "لمسة" يوسف الشريف

أحمد الليثي

أبعد من "لمسة" يوسف الشريف

أحمد الليثي
06:50 م الأربعاء 01 يوليو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الدنيا مقلوبة. مصر في خطر. الرجعية تتقدم والحريات تتهاوى. تصريحات تتأوّل ونقاشات محتدمة، حملات دعم وأخرى للمقاطعة، جبهات تتكون مع وضد؛ "يوسف الشريف يزلزل المجتمع ويلعب في هويته"، في مقابل "يوسف الشريف ينتصر لقيم الفن ورسالته".. هكذا يستمر الجدل منذ أيام خلت.

(1)

وبعيدًا عن تصريح يوسف الشريف والتضامن معه أو نقده، وقوفك مع أي الفريقين أو على الحياد. لكن الأزمة تطرح سؤالا أبعد، منذ متى ونحن لا نصنع فنا أو دراما تستحق النقاش؟، أين نحن من ذلك الفن الذي يشتبك مع الواقع، يناقش قضايا تهم الناس ويعبر عنهم، لماذا تحول الهامش إلى متن، تقهقرت الأولويات، والفراغ أضحى حاكمًا، الكلام العابر يخلق صخبًا وجدلاً كبيرًا؟ متى أصبحت جميع مشاكلنا محض فرقعة وتريند. ببساطة؛ لأننا لا نقدم شيئا حقيقيًا يجذب الانتباه ويُحدث الفارق ويُحرك الركود فتذوب داخله الأزمات الهامشية و"الفرقعة". من جعل صناعة السينما والدراما مجرد معلبات وكلاشيهات وقوالب مفتعلة؟.

لم تمر أيام على نهاية الموسم الرمضاني الأخير، فيما كان المصريون متحلقين حول "عبدالغفور البرعي"، كما يحلو لنا تسميته، المسلسل المنتج عام 1996. لماذا يبقى عمل عالقا في أذهان المتابعين نحو ربع القرن، حل المعادلة سهل؛ لأنه يشبههم، يشبه بيوتهم وحياتهم.

(2)

خلال كواليس مسلسل "حكايات هو وهي"، 1985، كان الفضول عن: كيف ستتعامل السندريلا مع عملها الأول في التليفزيون، فجاء الرد بقدر الممثلة الأيقونة: "بهتم نمرة واحد بالموضوع اللي هواجه به الناس، الموضوع إذا كان له طعم وله قيمة وبيعالج قضية إنسانية حقيقية مهياش مزيفة دي بتبقى عندي أهم شيء، وكل السرور بيبقى عندي لما بحصل على حاجة زي كده".

لذلك عاش "هو وهي" فيما نصنع عشرات المسلسلات تذهب أدراج الرياح بعد أيام من عرضها، ولذلك أيضًا كانت سعاد حسني نجمة عن حق؛ لأنها صادقة ومؤمنة بدورها، أما أولئك الذين يعتبرون أن الصعود لقمة الهرم يحتاج فقط لمزيدٍ من المتابعين على تويتر وإحراز المزيد من "الفولو" فلن تعيش أعمالهم، ولكنهم يفسدون الواقع حتى على المبدعين من حولهم.

قبل أيام وفي حوار إذاعي كانت المخرجة كاملة أبوذكري تُعقب على سلوك بعض الممتهنين بالفن زورا، والذين يعتبرون أنفسهم أبطالا، وقرارها بأنها لن تتعاون معهم ثانية، وهي تقول "أنا مقدرش أحس إنك فنان وأنت مش بني أدم.. اللي بيعامل أقل منه بطريقة فيها سفالة ده مش فنان.. أو اللي بتعتقد إن النجومية لما تخلي الـ100 بني آدم في اللوكيشن مرميين 4 أو 5 ساعات وتيجي آخر واحدة دي مش نجومية".

كم مرة سمعنا عن ممثل يستبعد المخرجين كأنما يستبدل قميصًا جديدًا، كم مرة سمعنا عن ممثل عدل النص أثناء التصوير دون الرجوع لأحد، كم قضية رُفعت وكم خناقة اندلعت وكم اشتباك واهٍ عشناه، فيما تضع سعاد حسني قاعدة مؤسسة يسير عليها كل فنان حقيقي، عن تقديرها لنفسها ودورها: أنا أعترفلك إني أنا كممثلة لا أساوي شيئًا، من غير مخرج حساس عنده روح ووعي وثقافة وخلفية وإحساس بالإيقاع ميقدرش ياخد مني حاجة ولا أنا أقدر أديله حاجة.. إذا كان ورا الكاميرا أستاذ بيحرك كل ده بيبقى في فن.. وكذلك مدير التصوير إذا مكنش فنان بيضيف لجو المشهد.. إزاي الواحد شكله يكون مظبوط من الناحية الدرامية مش مسألة حلو ووحش مسألة جو المشهد؛ ليه هنا فرحانة أو حزينة وحالة الممثل الداخلية.. وطبعا من غير تأليف ودراما كويسة مفيهاش مبالغات ولا تزييف ولا افتعال أنا هعمل إيه؟".

(3)

منذ فترة –ليست بالبعيدة- كنا نشعر أننا محاصرون بالجمال، في الأفلام والتليفزيون، أسماء براقة تمتعنا بأعمال خالدة؛ أفلام لسمير سيف ومحمد خان وعاطف الطيب، خيري بشارة ورأفت الميهي ويوسف شاهين وداوود عبدالسيد وشريف عرفة، كتابة لوحيد حامد وماهر عواد وإبراهيم الموجي، دراما بختم أسامة أنور عكاشة ومحسن زايد ويحيى العلمي وإسماعيل عبدالحافظ، محمد فاضل وجمال عبدالحميد، أعمال عن روايات لبهاء طاهر وخيري شلبي وفتحي غانم ونجيب محفوظ، أغاني يكتبها صلاح جاهين والأبنودي وسيد حجاب وفؤاد نجم، ألحان لعمار الشريعي وياسر عبدالرحمن وميشيل المصري، مودي الإمام وراجح داوود. مباريات في التمثيل بين عادل إمام وأحمد زكي، يحيى الفخراني ونور الشريف، محمود عبدالعزيز وسعيد صالح، فاروق الفيشاوي وصلاح السعدني، جميل راتب وسناء جميل وعبلة كامل، محمود مرسي وعبدالله غيث وحسن عابدين، عبدالعزيز مخيون وحسن حسني وممدوح عبدالعليم ومحمود الجندي وعلي الشريف وجبابرة كثر.

الفن منظومة وعالم، رؤية وبُعد، صناعة ومعايير، موقف؛ في فيلم إسكندرية كمان وكمان يرسل يوسف شاهين تضامنه على تترات العمل بوضوح "تحية لنضال الفنان المصري من أجل الديمقراطية إلى حركة جموع الفنانين" في إشارة إلى اعتصام الفنانين، 1987، عقب أزمة قانون النقابة الشهير رقم 103، والذي وثقه شاهين داخل الفيلم بمشاهد واقعية تبقى في الذاكرة لا تبرحها.

لماذا يقبل نور الشريف في عز تألقه أن يواجه بالتنكيل من أجل "ناجي العلي"، لماذا يريد عادل إمام في قمة العنف والتطرف أن يقدم "الإرهابي"، لماذا يدفع سعيد صالح ثمن الكلمة المسرحية في السجن عن طيب خاطر، لماذا يقاتل أسامة فوزي حتى يخرج "بحب السيما" للنور؟ كم من فنانٍ يفكر في الصناعة، كم من فنانٍ تعيش أعماله ومن يُنسى كأن لم يكن؟.

يقول يحيى الفخراني إنه يُلاحق دوما بسؤال وحيد من كل وجه جديد يلتقيه: "هو أنا بمثل حلو ولا لأ؟".. فيما تأتي الإجابة بنصيحة ذات مغزى، لا تجري خلف الردود السريعة والنجومية من دون تعب أو جد وكد، لكنها روشتة ناجعة إن طبقها "الفنان لازم يبقى صادق في اللي عايز يعمله.. والموضوع مش بس بالجماهيرية اللحظية أنا عملت أحلى أفلام ليا في بداية حياتي واتقيمت واتكرمت عنها في آخر حياتي.. زي تجربة الملك لير لما عملتها سنة 2000 قالوا ده مجنون، إيه اللي يخليه يعمل مسرحية لشكسبير.. اعمل اللي أنت عايزه بصدق، كن أنت".

(4)

جرب أن تجلس بمفردك دون الاعتماد على "الشيخ جوجل" وراجع أهم الأعمال خلال السنوات الماضية، حاول أن تستجمع عشرة أعمال في الدراما والسينما تستطيع أن تعتبرها مؤثرة، توثق لشكل حياتنا، إلى أي مدى كانت معبرا حقيقيا عن قضايانا وواقعنا، هل كانت قادرة على الاشتباك مع الناس؛ أوجاعهم وأحلامهم، هل ما نراه على الشاشات يؤرخ لما نعيشه، طبعا لأ؟!.

في سواق الأتوبيس تجلجل صرخة نور الشريف وهو يقول "يا ولاد الكلب" كأنه صوت الجمهور فيما آلت إليه حياتهم، عاطف الطيب يعبر عن مصر في هذا الزمن، "ولكن لدي علاقة ومصلحة في هذا البلد.. لدي مستقبل هنا أريد أن أحميه" بصوت أحمد زكي في مرافعته "ضد الحكومة"، في الراية البيضاء يبدأ المسلسل بعبارة "معركة يديرها محمد فاضل"، في الغول الصحفي ينتقد قانون ساكسونيا، عزيزة وعبدالله يمثلون الفلاحين البسطاء في الحرام، ومحجوب عبدالدايم نموذج الطالب المُعدم في القاهرة 30، الموظف البسيط في الإرهاب والكباب يحدث الحكومة عن أحلامه المتواضعة "مطالبي.. أنا مليش مطالب.. أنا زي زيكم بالظبط ماشي جنب الحيط.. راضي وقانع، أنا مش طالب غير إنسانيتي، مش عايز أتهان، مش عايز أتهان في البيت ولا في شغلي ولا في الشارع.. متهيألي دي مطالب لا يمكن أتعاقب عليها"، يمكن أن ترى مصر في الصعاليك والكيت كات، المشبوه ومعالي الوزير، في بيتنا رجل وأفواه وأرانب، الحريف وزوجة رجل مهم، بداية ونهاية والزوجة الثانية، البريء والحب فوق هضبة الهرم، حديث الصباح والمساء والعائلة، خالتي صفية والدير والوتد، زيزينيا وأرابيسك والراية البيضا، الشهد والدموع وأبوالعلا البشري.

(5)

لماذا يتسابق النجوم على نيل الألقاب دون تقديم أعمال تستحق الإشادة، لماذا يكتب أحدهم "فكرة وتأليف" على عمل مسروق بالكلمة، لماذا يتعامل ممثل ظهر قبل يومين بغرور الذي حصد الأوسكار، لماذا يبحث "نجومنا" عن المكافأة والمجد دون جهد يُذكر؟.

في عام 1987 كان محمود عبدالعزيز في قمة تألقه، بعد الكيف والجوع وإعدام ميت والبريء ودرب الهوى والعار والعذراء والشعر الأبيض، وفي ذاك العام كان بطلا لـ6 أفلام –بينها السادة الرجال وجري الوحوش- وفي طريقه لإنهاء تصوير أبناء وقتلة، وله مسلسل تليفزيوني ناجح جدا "البشاير" ومسلسل إذاعي "الدنيا على جناح يمامة" قبل أن يتحول لفيلم في العام التالي، وفي تلك الأثناء كان فنان الكاريكاتير رمسيس يختتم برنامجه الشهير "يا تليفزيون يا" وهو يرسم عرش الكوميديا مذيلا بعبارة "محجوز.. محمود عبدالعزيز" فيما كان الأستاذ الكبير يلملم حياءه ويمسح عرقه خجلا وهو يعلق بصدق "ده كلام كبير جدًا.. لأن أنا لا أطمح ولا أطمع في إني أبقى محتل هذا العرش.. وعايز أقول حاجة إن عروش التمثيل والدراما والكوميديا كتيرة جدًا.. يعني عرش الكوميديا ما زال فيه نجيب الريحاني وإسماعيل يس وربنا يديله الصحة والعمر الأستاذ عبدالمنعم مدبولي وأمين الهنيدي ومحمد عوض وأساتذة كتير بنحبهم وبتمنى لهم التقدم والازدهار دائمًا.. إنما إحنا نبقى جنبهم في التمثيل لكن مش محتلين؛ لأن دي كلمة صعبة جدًا وكبيرة جدًا عليا".. في الوقت الذي يجري التنازع على الألقاب بفعل صاحب المتابعين الأكثر على إنستجرام، وأصحاب العضلات المفتولة و"فورمة الساحل".

(6)

في سبتمبر 2014 خلال تكريمه الأخير من مهرجان الإسكندرية السينمائي يقول نور الشريف "مفيش فنان لوحده بيبقى شاطر لا بد يكون أساتذته والظروف والمناخ العام بيساعدوه يختار" بعدما تحدث أنه تشرف بأن أول أعمال لـ"سعيد مرزوق/ داوود عبدالسيد/ محمد خان/ سمير سيف/ محمد النجار" كانت من بطولته.

لكن طالما أن الموضوع مجرد قوالب تحت سقف وطريق مرسوم، وبعض الفنانين بلا هم ولا مشروع وغير قادرين على فهم الشارع بتطوراته وأحلامه، ستبقى مشاكلنا محصورة في تصريح وخناقات و"تريندات".. لكن الفن نفسه "الله يرحمه".

بعد فيلمه الأخير قدرات غير عادية طُلبت الإعلامية لميس الحديدي، من الأستاذ داوود عبدالسيد رأيه في سينما السبكي قال إن "هناك هجومًا بالغلط جدًا عليه" والأزمة لا تكمن في السبكي فهو تاجر شاطر يبيع سلعة رائجة، قبل أن يستطرد وإن كانت الدولة لا تريد هذا الذوق ولا تريد له أن يظهر للنور فـ"هي اللي عملت الناس اللي طالبه النوع ده"، توضح "لميس": "هي اللي معلمتهمش ومثقفتهمش".. ويختتم "داوود": "وأنا ضد إن الدولة تدخل في الإنتاج لكني مع إن الدولة تدعم الإنتاج.. هنا دورها إزاي تخلي الأفلام الجيدة موجودة".

إعلان

إعلان

إعلان