لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

" قُلتُ في بدنى".. وهكذا طبع الأرضيين

د.هشام عطية عبد المقصود

" قُلتُ في بدنى".. وهكذا طبع الأرضيين

د. هشام عطية عبد المقصود
07:50 م الجمعة 14 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ربما يحمل هذا البيت بهي التأليف واللحن والغناء تعبيرًا مكثفًا عن فلسفة الأيام وهي تمضي.. فالشاعر صفي الدين الحلي من أهل بغداد بالعراق أبدع هذه القصيدة خلال النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وقد اختار محمد عبدالوهاب معظم أبياتها؛ ليلحنها ويغنيها ويقدمها للجمهور في العام 1944، وما بين زمان تأليف القصيدة وزمان تلحينها ثم الغناء ما يقرب من ستة قرون كاملة، ظلت الكلمات حاملة للدهشة والأثر الجمالي والتعبير عن شيء من سيرة الناس في مدارات الأفلاك والمواقيت حتى التقطتها ذائقة عبدالوهاب فمنحتها عمرًا مديدًا، وحيث يبقى البيت الفذ كأنه موجز سيرة البشر في الكون، وتعبيرًا عن الثابت والمتحول ربمًا قليلاً في طبع الإنسان في حوارٍ عذبٍ مصاغٍ شعرًا ( قالت تغيرت؟.. قلت في بدني).

إن التأمل في الحياة يزيد أوجاع الحياة.. كم كان صادقًا شفافًا سباقًا إلى المعنى الدقيق موجزًا موحيًا.. الشاعر إيليا أبوماضي، ربما مقصده هو ذلك التأمل المفصل الذي يداخل الفرد صغيرًا أو كبيرًا، عادة أو اكتسابًا، فيستقر سلوكًا؛ ليصنع الألم أو وجع الحياة كما صاغها في مهجريته الشعرية الرائعة، حيث لا مفر من التأثر طالما تعيش لكنه هنا يحمل دعوة ضمنية للرأفة بالذات.

وحيث لا يعني أبدًا الدعوة؛ لنقيض سلوكي مسلكًا للنجاة من الألم والوجع، فالرحمة زاد الأرضيين ومتكئات بقاء، بل ربما يكون المقصد أن على الفرد أن يتعامل رويدًا مع ما يقابله أو يراه وفق قدراته وطاقة نفسه، فلا يسارع؛ ليحمل ما ينوء به وما قد يحلو للبعض أن يوجهه نحوه أو حتى يقذفه به وقتما شاء، هي خبرة تتقدم وتبلور مصداتها مع الوقت بالتدبر والتفكير، وإن كان الطبع يكسب الجولات كثيرًا جريًا على ما قاله متنبي الفصحي مؤشرًا به على أثر الطبع الذي يهزم في كثير من جولاته كل تطبع مراوغ "خُلِقتُ أَلوفًا لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا.. لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا".

لم يعد الأمر خيارًا سهلاً على عادة أهل الزمان القديم، بأنه يمكن سد باب مجيء الريح -كل رياح مرهقة- لتستريح، ربما كانت وصفة سهلة يمكن أن تُقدم لتناسب بيوتا وأزمنة ما مضت، تليق بإنسان لديه باب واحد يمكنه غلقه والباب قادر وحده بصلابته على وقف صرير وعبور موجات الرياح العاتية المزعجة؛ ولأنه وقد انتهى هذا العصر، وحيث المخلوق الحالي نبت له عضو جديد صار من أهم أجهزته الحيوية، عضو "سمارت" ملازم لأصابع اليد ويسمي هاتفًا، وهو جزء من أصابع كل يد تقابلها، بحيث يجبرك علي أن تدخل ساحة المعرفة /الرياح شئت أم أبيت دون وازع أو مغلاق من ليل أو نهار.

تتسع الحياة –ولطالما كانت كذلك دومًا– لصروف وظروف ومصائر شتى لا ينفلت منها أحد، لكن ساحات السوشيال ميديًا فرضت على الجميع عدم مراعاة فروق التوقيت صغارًا وكبارًا، فجمعت "الأحزان العادية" مكدسة في سلة واحدة ووزعتها على الرواد كتذكرة دخول مجانية، من خلال ما صار يتناثر عبر موجاتها من ذلك كثيرًا وظهور فئات وأفراد كثر صارت تهوي وتتخصص في نثر الأحزان كأنها تعيد زراعة نبات نادر فريد قادر على منح الخلود.

صار ذلك قانونًا غير مكتوب لفضاء البشر على المنصات ارتباطا بزيادة حجم السكان -الافتراضيين الواقعيين في مزيج تشكل منهما- وكما يضغط الزحام على جودة أداء كل خدمة، جلب التكدس عوارضه على فضاء ساحات السوشيال، شئت ذلك أم أبيت؛ لتدخل حتمًا في التجربة.

الاستمرار في ذلك وتقبله هو الغباء والمعاناة ذاتها إذ يسعي نحوهما الإنسان جهولاً غشومًا، ولأن إنسان العصر صار واعيًا عارفًا بالإتاحات والبدائل، فقد حدثت هجرة مؤقتة جماعية فريدة عبر الموجات إلي فضاء إنترنت آخر وتحت دعوة في ظاهرها لطيفة: هيا بنا نمرح و"سيبوني أعيش" وإلى حيث ينتظر قطار التيك توك الصيني، هربًا من قدم لافت وسكون بحيرات السوشيال التي أوشكت أن تكون راكدة نتيجة عدم قدرتها على الاستجابة – بل توقع أيضا والسبق- لاحتياجات جمهورها.

هكذا صنع الإقبال الجم الأول والقديم على الفيس بوك والسوشيال عامة مصداته الاجتماعية والنفسية بعد مرور زمن وبعد ثبوت بيان "الآثار الجانبية" لهذا الدواء الذي قدم للعالم ذات مرة على أنه سحري المفعول يقضي على الوحدة والفراغ ويُقرب البعيد ويُحضر الحبيب، فإذا هو يفسح عنوة بوابة مغادرته –وفق معدلات ساعات المكوث- واسعة لكثيرين، وربما هذا ما يفسر سرعة لهاث الفيس على احتكار وشراء و"تأميم" المنصات المنافسة له، وربما يفسر أيضًا رغبة مقر الإمبراطورية السوشيالية الكبرى في ألا يتواجد معقل جديد خارج حدودها الجغرافية الأرضية، وهو ما قد يلقي الضوء قليلاً على حرب التيك توك أمريكيًا وصينيًا، فمورد ضخم جديد للمعلومات وتفاصيل البشر يوشك أن يكون خارج المقر الرسمي لصناعة السوشيال في العالم.

عمومًا سيكون هناك دومًا بحث بشري عن بديل، يوازي سعي الإنسان وهو يمضي وحيث كل يحمل طبعه كصخرة الأسطورة السيزيفية، يصعد بها مخففًا أثرها، ثم حين يعتقد أنه أوشك البلوغ والتغير، تسقط الصخرة محملة ببعض من عرقه وأثر جلده؛ لتعيد إنتاج طبعه جيناته وبصمته الأولى، شيئًا يشبه تمامًا هوى المحبين الصغار حين يغادر ويصير في الزمان البعيد نسيانًا، حتى إذا هبت نسائم عابرة يعود كأنه لم يغادر قط، ولينطلق صوت عبدالوهاب ردًا على سؤال تغيرت؟ مسرعًا بالقول: "قلت في بدني".

إعلان

إعلان

إعلان