لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عصر «العيال»!

د. ياسر ثابت

عصر «العيال»!

د. ياسر ثابت
07:00 م الإثنين 27 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

خلال العصر المملوكي، حكم «العيال» مصر ما يزيد على نصف قرن. حدث ذلك عندما كان السلطان يستخلف ابنه الطفل على عرشه، ويموت تاركًا له العرش، فيحكم عامًا أو عامين، يذيق فيها الشعب العذاب بتصرفاته الطائشة وسياسته الصبيانية. وعلى امتداد الحُكم المملوكي، تولى سبعة عشر منهم ستة تقل أعمارهم عن العاشرة، والبقية تحت 16 سنة .

ويشير الكاتب الصحفي صلاح عيسى في كتابه «هوامش المقريزي: حكايات من مصر» (الكرمة، 2019) إلى أن بعض هؤلاء الحكام كان صغيرًا إلى درجة الضحك، ومنهم الملك المظفر أبو السعادات أحمد ابن السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ المحمودي.

يقول عنه يوسف بن تغري بردي إنه «تسلطن يوم مات أبوه الملك المؤيد شيخ على مُضي خمس درج من نصف نهار الاثنين تاسع المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمائة وعمره يوم بويع بالملك وجلس على سرير السلطنة سنة واحدة وثمانية أشهر وسبعة أيام‏.‏ وهو السلطان التاسع والعشرون من ملوك الترك وأولادهم والخامس من الجراكسة وأمه خوند سعادات بنت الأمير صرغتمش الناصري أحد أمراء دمشق».

حاكمٌ عمره 20 شهرًا!

ونطالع في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» إنه «لما مات أبوه السلطان الملك المؤيد طلب الملك المظفر هذا من الحريم بالدور السلطانية فأخرج إليهم فبايعوه بالسلطنة بعهد من أبيه إليه بالملك قبل تاريخه وألبسوه خلعة السلطنة وركب فرس النوبة بأبهة السلطنة وشعار الملك من باب الستارة بقلعة الجبل ومشت الأمراء بين يديه وهو يبكي من صغر سنه مما أذهله من عظم الغوغاء وقوة الحركة»‏.‏

«وصار من حوله من الأمراء وغيرهم يشغله بالكلام ويتلطف به ويسكن روعه ويناوله من التحف ما يشغله به عن البكاء حتى وصل إلى القصر السلطاني من القلعة فأنزل من على فرسه وحُمِل حتى أجلس على سرير الملك وهو يبكي.

«وقبَّل الأمراء الأرض بين يديه بسرعة ولقبوه بالملك المظفر بحضرة الخليفة المعتضد بالله أبي الفتح داود والقضاة الأربعة ونودي في الحال بالقاهرة ومصر باسمه وسلطنته».

ويروي عيسى في كتابه أن بعض هؤلاء السلاطين الأطفال كان ولدًا شقيـًا، ومنهم الناصر فرج بن برقوق (1399 - 1405)، وهو الناصر زين الدين أبو السعادات، الذي تسلطن وهو في الثانية عشرة من عمره بعد وفاة والده. هو السلطان السادس والعشرين، والجركسي الثالث، بين سلاطين المماليك، وكانت أمه رومية وتُدعى شيرين.

يقول مؤرخون إنه «كَانَ سلطانًا مهيبًا فَارِسًا كريمًا فتاكـًا ظَالِمـًا جبارًا منهمكـًا على الخمر واللَّذَّات طامعـًا في أموال النَّاس».

وبالرغم من صغر سنه، فإنه كان فاحشًا في سلوكه، يشرب الخمر إلى نصف الليل، ثم يخرج إلى الحوش السلطاني بالقلعة وهو سكران، فيستعرض المماليك الذين في السجن ويطلب سكاكين حامية يذبحهم بها، ويدوس على وجوه بعضهم بأقدامه، ثم يبول عليهم أو يصب النبيذ على أجسادهم.

وينقل عيسى عن إبن إياس في تاريخه قائلًا إن «الناصر فرج ذبح من أولئك المساكين نحو ألفي مملوك، بمتوسط عشرين في الليلة الواحدة».

وفي العام 901هـ/1495م، وبينما السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي يُنازع الموت، استغل قائد الجيش الأمير تمراز الشمسي هذه اللحظات المفصلية ليمكِّن لنفسه بالسلطنة من بعد الأشرف قايتباي. لقد أشار على السلطان وهو في نزعه الأخير أن يوصي بالسلطنة من بعده لابنه الأمير محمـد بن قايتباي، غير أن قايتباي لم يكن يدري ما يحدث، فاستغل قائد الجيش هذه الحالة، وخرج على القضاة الأربعة زاعمًا أن السلطان أوصى لابنه محمدٍ من بعده. ويُعلِّق المؤرخ الكبير ابن إياس على ذلك بقوله: «فهذا كله جرى والأشرف قايتباي في النزع، ولم يشعر بما وقع من هذه الأمور، ولو كان واعيًا لما مكَّن الأمراء بأن يسلطنوا ولده، ولا كان ذلك قصده».

كان محمد بن قايتباي فتى في الرابعة عشرة من عُمره، اعتبره كبار المماليك صيدًا سهلًا، وصورة يمكن أن يتحكموا من خلفها بحبال اللعبة والسياسة، ويستأثروا على الثروات والمناصب، ويديروا البلاد كيفما أرادوا.

مع مرور الأيام كان السلطان الفتى أو السلطان المراهق محمـد بن قايتباي يزداد طغيانًا وإجرامًا، فكان يتلذذ بالقتل وإهراق الدماء؛ إذ دأب على إخراج المسجونين من السجون، وتعلم من المشاعلي الذي كانت مهمته إعدام المجرمين (عشماوي ذلك العصر) كيف يكون القتل، وسرعان ما كان يقتلهم بنفسه وهم لا جريمة لهم سوى قضاء عقوبة السجن، بل بلغت ساديته حدًّا كان يقطع فيه ضحاياه إلى نصفين، ثم وصل إجرامه إلى حد قطع آذانهم وأيديهم وألسنتهم.

كان هذا السلطان مراهقًا شريرًا، منع الناس من الخروج ليلًا في الشوارع، وعاقب النساء، بقطع أجزاء معينة من أجسادهن، ينظمها فى خيط كالمسبحة لتكون دليلًا على فتوته الجنسية.

ووصل به الأمر أن هجم يومًا على جارية، فقيّدها ثم شرع يسلخ جلدها عنها كالجزارين، وهي حية تصرخ وتستغيث. وجاءت أمه على الضجة ومعها رجال القصر، وأخذوا يستشفعونه ليترك الجارية، فلم يستجب لأحد، وظل منهمكـًا في عمله، وعندما أتم سلخ الجارية حشا جلدها بثياب كثيرة، وخرج لمن كانوا بانتظاره فعرض عليهم فنه وفاخر أمامهم بأن الجزارين يعجزون عن إتقان عملية السلخ كما أتقنها .

لقد صدق ابن إياس حين قال عن الناصر محمد بن قايتباي بأسلوبه القريب من العامية: «قد بهدل حُرمة المملكة في أيامه، ولم يتَّبع طريقة الملوك السالفة في إقامة حرمة السلطنة، وصار على طريقة والي الشرطة» في الشطط في زجر الناس، وقتلهم دون وجه حق، والاستيلاء على أموالهم غصبًا وقهرًا، وعدم إلجام المماليك الجلبان عن مظالمهم.

قرر الجميع التخلص من هذا السلطان المراهق الذي بلغ السابعة عشرة من عمره، ونفَّذ فيه حد القتل وهو يتنزه في متنزهات وبساتين الجيزة، بعد ثلاث سنوات من العذاب والإجرام الذي شهدته مصر في زمنه، وذلك في الخامس عشر من ربيع الأول من عام 904هـ/أكتوبر 1498م، ليدخل المماليك في مرحلة جديدة من الانقلابات، وإهراق الدماء!

إعلان

إعلان

إعلان