لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عام على رحيل رجائي الميرغني

عمار علي حسن

عام على رحيل رجائي الميرغني

د. عمار علي حسن
10:10 ص السبت 05 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مر عام على رحيل رجل نبيل، راجح العقل، يقظ الضمير، عف اللسان، كريم على قدر الاستطاعة، هو الأستاذ رجائي الميرغني، وكيل نقابة الصحفيين الأسبق. عملت تحت رئاسته في أول رحلة العمل بالقسم الخارجي بوكالة أنباء الشرق الأوسط، فتعلمت منه الدقة والإخلاص للحقيقة، والشجاعة في اتخاذ القرار، بعد التمعن والفهم والإحاطة، ووقفت إلى جانبه في معارك النقابة مقتنعا بقدرته على الإجادة والإفادة، وخدمة الناس، ومؤمنا بأنه يملك قيمة عزت كثيرا في زماننا وهي إنكار الذات، التي أدت ندرتها إلى فشل الكثير من التدابير الصغرى والكبرى في حياة أمتنا خلال السنوات الأخيرة.

كان رجائي الميرغني، وهو رئيس قسم، يعمل بهمة محرر تحت التمرين، فمن أول دورة العمل إلى آخرها لا يرفع رأسه عن الورق معملا فيه قلمه، وهو يزم شفتيه في جدية، دون أن تفارق وجهه تلك الابتسامة الربانية، التي جعلت كل من يقترب منه يألفه، ويطمئن إليه. ولم يختلف أداؤه وهو يترقى في المناصب الصحفية حتى أحيل إلى التقاعد.

في نقابة الصحفيين كان من البنائين الكبار، فمنذ انتخابه لعضوية مجلس إدارتها، وهو يعمل في خدمة المهنة وأصحابها، فرأيناه يعيد تنظيف وتنظيم وإحياء أرشيف النقابة الذي كان يحوي أشياء نفيسة تخص أعلام الصحافة وكتابها الكبار، وكان يعمل بيديه مع العمال ليل نهار في سبيل إنجاز هذه المهمة. ورأيناه وهو يكافح مع زملائه في سبيل إسقاط مشروع قانون تقييد الصحافة حتى هوى، ورأيناه وهو يحرص على أن تكون مؤتمرات الصحفيين المتوالية فرصا للدفاع عن الحريات، والاستقلال النقابي، وتعزيز الثقافة القانونية لدى الصحفيين.

وأيام كان وكيل أول النقابة، وثق به النقيب الراحل الأستاذ إبراهيم نافع وآمن بقدرته على اتخاذ قرار مدروس، فترك أغلب الأشياء له، فكان هو النقيب الحقيقي في الظل، أو من الخلف. وحاول أن يصبح النقيب قانونا وواقعا وفعلا فيما بعد فخاض معركة انتخابية مشرفة ضد الأستاذ مكرم محمد أحمد الذي وقفت السلطة وقتها خلفه بكل إمكاناتها. ولم يؤد هذا إلى انسحاب الميرغني من العمل النقابي، بل كان دوما مستدعى في المهام والملمات الكبرى التي خاضها الصحفيون على مدار ربع قرن، فخاضها بهمة محارب، مثلما سبق له القتال في حرب أكتوبر 1973، وتبتل رسام، فهو كان رساما هاويا محبا، وقد أعجبتني إحدى لوحاته فأخذتها غلافا لكتابي «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر»، مستبشرا بها، ففاز الكتاب بجائزة الشيخ زايد عام 2010.

في سيرتي التي أصدرتها عام 2018، تحت عنوان «مكان وسط الزحام.. تجربة ذاتية في عبور الصعاب» أتيت على ذكر حوار دار بيني وبين الميرغني ذات يوم، كان له أثر عميق في تصوراتي وتصرفاتي اللاحقة، حيث قلت فيه: "حددت في زمن مبكر موقعي وموقفي بوضوح بفضل نقاش دار بيني وبين رجل نابه على ثقافة وخبرة تجعل لديه ما يجب الإنصات إليه، وهو يكبرني بعشرين عامًا على الأقل.

يومها بدأ حديثنا بسؤال لي: لماذا لا ينتصر الحق؟ كان سؤالي نابعًا مما أراه في البلد بصفة عامة، وفي المؤسسة التي أعمل بها على وجه الخصوص، وكنت قد انتهيت للتو من قراءة رواية سبارتكوس محرر العبيد، وأردد مع صديقه السؤال وهما معلقان على مشانق المغيب: هل كان من الممكن أن ننتصر؟ بينما أغوص في عمق التاريخ باحثًا عن لحظات النور والعدل والحرية فأجدها شحيحة، لا تكاد تبرق حتى تنطفئ، ويحل الظلام والظلم والقهر. وكنت أبدو هنا متسائلًا عن جدوى النضال في نهاية المطاف؟

كان سؤالًا يحمل من الاندهاش والاستنكار بقدر ما يحمل من الاستفهام، ولأنه سؤال وجودي إلى حد كبير، فقد تطلب ساعات من النقاش، بيني وبينه في مكتب مغلق انتهينا فيه إلى أن الحق إن لم ينتصر، والصواب إن لم يسد، أغلب فترات التاريخ فإن وجود من يدافع عنهما ضروري كي لا يتوحش الباطل والخطأ، وأن هذا هو معنى التدافع في الحياة، وأن كل فرد مسؤول عن أقواله وأفعاله لا يضره من ضل أو غوى، وعليه ألا يستوحش الطريق الذي يطمئن إليه مهما قل عدد سالكيه.

ولهذا صرت محصنًا من الشعور بالهزيمة، حتى في أشد اللحظات قتامة، وقادرًا على تجاوز اليأس في الأيام العصيبة التي أرى فيها كل ما حلمت به يتساقط أمام عيني، وأسمع همس من يطالبني بالاستسلام، ويكون علي أن أقوم لأقاوم من جديد، ويصبح بوسعي أن أجيب على من يسألني دومًا: لماذا لا يغادرك التفاؤل؟ وأجيبهم أن من مهامي أن أمنح الناس الأمل، ولا يدري السائلون شيئًا عن هذا النقاش الذي لا يزال صداه يتردد في أذني، رغم مرور كل هذه السنوات".

أعتقد أن الأستاذ الميرغنى- رحمة الله عليه وغفرانه- قد نقل لي تجربته مع اليسار المصري، وفي النضال النقابي، وفي مسار حياته الخاصة، وكان مؤمنا بما يقول، فدخل كلامه قلبي وعقلي، وأنا أتابعه حتى رحيله، كواحد من رجال مصر الذين يعملون في صمت، وخارج دوائر الضوء، دون أن يفت هذا في عضدهم، أو يصيبهم بقنوط ويدفعهم إلى الانسحاب اليائس البائس، فلولا وجود هؤلاء ما بقي كل شيء جميلا طيبا على قيد حياتنا التي تتضاربها الأنواء والأهواء.

إعلان

إعلان

إعلان