لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

في حب "لارا" ودكتور "زيفاجو"

د. أحمد عمر

في حب "لارا" ودكتور "زيفاجو"

د. أحمد عبدالعال عمر
07:17 م الأحد 05 سبتمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هناك شخصيات روائية من النوع الإنساني الثري النادر، الذي تحبه مهما كانت تناقضات روحه وعقله وسلوكه، ومهما كانت أخطاؤه. ومع حبك له وفهمك لسياق تكوينه وجوانب شخصيته ونقاط ضعفه وقوته، ودوافع اختياراته، تجد نفسك تتعاطف معه، وتغفر له ما لا يمكن أن تغفره لغيره.

أكثر الشخصيات الروائية التي ينطبق عليها ذلك القول، هي شخصية "لارا" بطلة رواية "دكتور زيفاجو" للأديب الروسي بوريس باسترناك الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1958.

وهي رواية نُشرت للمرة الأولى عام 1957، ويمكن اعتبارها سيرة ذاتية للكاتب والعصر وتحولاته، وسيرة ذاتية للإنسان في ذلك العصر، ورصد لجوانب الملحمة والبطولة والمأساة في شخصيته.

و"لارا" فهي شخصية حقيقية في حياة بوريس باسترناك، أحبها في شبابه، وكتب فيها القصائد، ثم جعلها بطلة لروايته، التي تحولت عام 1965 إلى فيلم سينمائي قام ببطولته نجمنا عمر الشريف في دور دكتور زيفاجو، وقامت النجمة الإنجليزية جولي كريستي بدور "لارا".

يصف باسترناك "لارا" فيقول: "كنت تقرأ في محياها القلق المُعبر عن ذلك العصر، وتلمح فيه الدموع والشباب والآمال وكل ما خلفه الانتقام والزهو. وهي ملامح ذلك الزمان.

كنت تقرأ كل ذلك مرتسمًا في تعبيرات وجهها، في ذلك الخليط الذي يجمع بين خجل فتيات المدارس وبين الرشاقة، بحيث يمكنك أن تسمي ذلك العصر باسمها فأنت تسمع صوته من فمها هي.

ولم يكن ذلك بالأمر التافه، بل لعل الطبيعة هيأتها لتكون هي البشير الناطق بالمصير، تلميذة وفي نفس الوقت بطلة مأساة غامضة".

وفي واقع الأمر، لم تهزني رواية في حياتي وتفاعلت معها، بحيث لاتزال بعد كل تلك السنين تُرهق روحي، عندما أفكر في حياة وخيارات ومصائر أبطالها، مثلما حدث لي مع رواية دكتور زيفاجو.

ولا أنكر أني أحببت "لارا" بكل معنى الكلمة، وتمنيت في الوقت ذاته كثيرًا أن أكرهها؛ لأنها جسدت في عيني كل تناقضات الأنثى التي يصعب فهما. كما جسدت نموذج الغواية بوجه ملاك يصعب الهروب منه.

ومع ذلك أعترف أني لم أستطع كراهيتها أبدًا، ولا أزال لليوم أملك محبة وتعاطفاً كبيرين معها، وأراها مرآة لعصرها، وتلميذة وبطلة مأساة كبرى كما وصفها بوريس باسترناك.

وكما أحببت "لارا" فقد فُتنت بشخصية الدكتور الأرستقراطي النبيل "يورا زيفاجو"، وتماهيت مع دوره وشخصيته، واحترمت فيه إنسانيته المفرطة ورؤيته وفلسفته في الحياة، وقدرة قلبه على تحمل هزائم ومفارقات الحياة. كما احترمت قدرته على التسامح والغفران، والتمسك بحب "لارا" في كل الظروف والأحوال، وعلى بعد الزمان والمكان بينهما.

وأظن أن حب دكتور زيفاجو لـ "لارا" رغم افتراقهما على غير إرادتهما، كان أعظم تجربة مر بها، رغم أن حياته حافلة بالأحداث والناس؛ ولهذا ظل يعيش على ذكراها، ويبحث عنها، وظلت المشاعر والمعاني التي عرفها معها لا تفارق روحه، وظل وجهها لا يفارق خياله.

وهي المشاعر والمعاني التي وصفتها "لارا" فقالت في حوار بينهما:

"أنا وأنت عاريان من كل ما كان لنا، فنحن الذكرى الخالدة لتلك العظمة التي لا حد لها، التي نشأت على الأرض منذ آلاف السنين إلى اليوم، وعلى ذكرى تلك العظمة المندثرة، نعيش، ونتحاب، ونبكي، ونتماسك".

وهذه المشاعر والمعاني التي جسدتها "لارا" في ذاتها رغم كل تناقضات شخصيتها، وما حفلت به حياتها من جوانب البطولة والمأساة، تجعلنا نقول في النهاية: مين اللي ميحبش "لارا"؟!

وتجعلنا نقول أيضًا: ما أحوجنا للعودة لقراءة الأعمال الفكرية والروائية والسينمائية العظيمة، لتُذكر إنسان وشباب اليوم، بالجمال والعظمة والمعاني الإنسانية التي نشأت على الأرض منذ آلاف السنين، وجسدتها عقول الأدباء والفلاسفة والموسيقيين والفنانيين، الذين أضافوا الكثير للإنسانية على مدار الزمان.

وتلك العودة ضرورة حياة وطوق نجاة في عالمنا اليوم، الذي صار عنوانه الأساسي: التفاهة، والسطحية، والابتذال، وغياب المعنى، وسيادة القُبح، وانعدام القيمة الإنسانية والجمالية.

إعلان

إعلان

إعلان