لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

يا وابور الجاز يا حبيبي !

محمد حسن الألفي

يا وابور الجاز يا حبيبي !

محمد حسن الألفي
08:35 م الثلاثاء 18 يناير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عرفنا في المنصورة زمان لسعة البرد الشديدة، ونعرف الآن بالقاهرة، قرصة الصقيع في البدن، جلدا وعظاما. ومع تراكم السحب الرمادية، والداكنة، تتراكم الذكريات، وتندفع لترتسم أمام عينيك، وأنت كمشان، قد ضممت ركبتيك إلى صدرك، ومع تدفق الصور من الزمن القديم تجدك في حنين طاغ إلى البدايات البسيطة. الآن، تحت البطاطين نعم. في قدمي جوارب ثقيلة نعم. الدفاية متاحة. الكاكاو الساخن نعم. القرفة. الحلبة الدمياطية المطحونة. والسحلب سيد مشروبات الشتاء بلا منازع... هذا كله متاح مباح حتى الصباح... لكن ما أروعك يا وابور الجاز. قرص النار البنفسجي يطرز الكوشة، والصوت الرتيب، رتيب حلو، والدفء السابغ، وأم محمد الألفي، تقشر حبات البرتقال. واليوسفي، وتناولها له ولإخوته، وكلهم متحلقون حول البريموس صانع الدفء. لتر الجاز كان بقرش. ولما زاد كان بقرشين. يومها قامت الاحتجاجات ضد السادات. بقرشين حصلنا على الدف ء. ما أروع أن تعصر قشر البرتقال على قرص النار، فتحصل على شذرات لطيفة من النار، تنتشر ولا تحرق، ثم ما أروع أن تلقي بحبات الفول السوداني في كوباية الشاي الساخن.. اشرب بالهنا. مذاق حلو. وقتها هو مذاق حلو. هل أحصل على المذاق ذاته الآن؟ لم أحصل. جربت ذلك بحنين جارف إذ اندفعت في مشاهدة مدافع نافارون، والقرصان الاحمر وسبارتاكوس والهروب الكبير والطيب والشرس والقبيح... ندمت. ليس المذاق هو المذاق. ليتني احتفظت بمذاق سن الستة عشر وما بعدها.

هو مذاق الزمن إذن. وحين يجتاحني الحنين الآن إلى صوت الوابور، فمن المؤكد أن من خرجوا من أرض الدلتا، حيث البرد القارص، يعرفون كثافة هذا الحنين، وكلنا احتضنا وهج النار وصوتها الرتيب اللذيذ. تفرد كفيك فوق الكوشة المولعة فرحانة بنيرانها، وتستمتع.

كنت أذاكر على نار الوابور وصوت الوابور وجسم الوابور بين ساقي، أمام الكنبة، وأمي رحمها الله ووالدي رحمه الله يتفقداني وأنا سهران، أن يكبس على النوم، واحترق وتولع الشقة بنا.. وكانت أمي تتابع بلطف كمية الجاز المتبقية للاصطباحة، الشاي والفول والطعمية وقهوتها هي ووالدي رحمها الله. أصعب اللحظات حين يشحر الوابور. التعبير غريب؟. كلا! حين نكبر وتضعف صحتنا. حين نجري سريعا وتتلاحق أنفاسنا، نكون في مرحلة التشحير. فكذلك الوابور. إنه يشحر لأن الجاز يلفظ أنفاسه الأخيرة. ثوان وينطفئ. لحظة انطفائه ليست تعني عدم استمرار الدفء، ولا عدم استمرار الصوت الحلو الرتيب فحسب، بل تعني انتهاء جو الأنس والمؤانسة، وأن أحدا يكلمك بلغته الخاصة، وأنك متدثر بعطاءاته... وأنه أعطاك حتى النفس الأخير.

حين تخفت النار، تجدك تسمع: إدي الوابور نفس.

تعطي الوابور نفسا بأن تدفع الكباس، وتسحبه وتدفعه عدة مرات، ليزداد الهواء الداخل لبطن الوابور حيث الكيروسين، الجاز يعني، فيتوهج قرص النار عبر ثقب الفونيه. هل تعرفون ابرة الوابور ؟ ابرة رفيعة من الصفيح، نسلك بها الفونية، ذلك الثقب ما بين خزان الجاز وقرص توزيع النار.

أهذه ذكريات قارئ تعلم واستمتع بالبريموس، أشهر الماركات في وقته، أم ذكريات صنايعي ينادي "أصلح بوابير الجاز ".

كالعادة ستتشاجر معي زوجتي... لأني أفتح خزانة الذكريات...

يا أهلا بالمعارك... على صوت الوابور يطن من وراء ستة عقود وأكثر.. !

سألتها: معندكيش وابور قديم ؟

قالت بحب ولطف وحنين: الله يرحمك يا حماتي...

إعلان

إعلان

إعلان