لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

هل ينتهي درس الحياة أبداً؟! ..

د.هشام عطية عبد المقصود

هل ينتهي درس الحياة أبداً؟! ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 23 ديسمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


يعتقد البعض منا أنه قد أحاط بمعرفة وقائع وخبرات الحياة والأشياء من طول معايشة وتمرس وتفاعل، ومن كثرة ما رأى واستمع وعاين، بحيث أنه قد آن حقا له أن يقول في كثير من أمر أو موضوع جديد يعاينه أو يعرض له أنه لا مزيد، فقد عرف وآلف وفهم واختبر وتكفيه تجربة القياس، دون أن يدري أن الألفة ذاتها ربما تكون هى ما يغشى فيحول دون التحقق من التفاصيل المستجدة والتي ربما تجعل الوقائع أو الأمر الذي يتعامل معها قد صار فعلا مختلفا أو حتى جديدا كلية، ثم إذ به وهو متيقن من تواتر ما عرف واختبر يبلور رأيه أو يتخذ سلوكه واثقا من صحة ما يقوم به، ومستندا على ما ظنه يقينا من الحياة بالتجربة والخبرة وطول المعايشة، وما أبعد صحة ذلك أحيانا وأحايين كثيرة عن جديد ومستجد في الحياة، ويتأكد ذلك خاصة في الخمسين عاما الأخيرة من عمر البشر والكون ومن مسيرة تطور مسالك الناس في إحداثيات الزمن والكوكب برا وبحرا وفضاء، واقعا وخيالا وبينهما معيشة بالمشاهدة والانخراط عن بعد منذ اختراع الإنترنت ومنصاته.
عرف العالم وسكانه خبرات ومستحدثات وتجارب فاقت أضعافا -يصعب أن تحصى رياضيا- كل ما عرفته البشرية منذ خطوها الأول على سطح الكون ومنذ نشأته التي يقدر لها العلماء أنها كانت منذ ما يقرب من 14 مليار عام تقريبا، ومنذ ذلك التاريخ الأول شهد نصف القرن الأخير وحده تطورات فاقت مفارقة وتباينا وابتعادا كل ما عاشته واختبرته ووثقته البشرية، وحيث صاحب تطورات تلك العقود القلائل المذهلة جديد مكتسب مدهش في المنجزات والمخترعات ومن ثم المدركات وتراكم الخبرات والرؤى ومعها تجسدات السلوك، وحيث تزيد وتيرتها إسراعا وتدفقا في كل عام ما يفوق ما قبلها من سنوات مضت، ارتباطا بمستجدات الوقائع ومعاينات الأحداث التي يتعرض لها الفرد والبشرية معا، ويشكل كل ذلك سياقات مختلفة للأحداث بإيقاع يتجاوز حيز خبراته الفرد ومدركاته بشأن ما عرفه واستقر لديه وهو ما يكاد يكون قد مر به توا، تحولات في تعريف المدركات لا تستقر سوى عبورا لتتيح ما يستجد، وهكذا نظل جميعا نتعلم، وهكذا أيضا لا يمكننا أن نقول أبدا إنه قد انتهى درس الحياة لنا إلا لمن أعرض عن خوض مساراتها ودروبها يظن أن ما عرفه اكتفاء وما حصله انتهاء، وما ذلك بصحيح ولا بيقين من فعل أو قول.
وتدرك ذلك وتكبر معه أجيال الأطفال والناشئة وحيث ولدت مستوعبة سياق التطور العظيم المتسارع واحتضنته يسرا ووظفت تطبيقاته التقنية والاتصالية في الحياة تقبلا وفهما واستمراية، وهي في تفاعلها مع الوقائع والمجريات تمنح مثالا واضحا على سرعة حيز النمو العقلي والذهني وخبرة التعرف بالأشياء التي تتراكم لديها بما يفوق كل ما اكتسبته الأجيال الأكبر سنا في تحصيلها عبر مسيرة البشرية الطويلة، وحيث يتم ذلك دوما في مدى زمني أقصر ويقل مع كل عام جديد، وبتراكم أعلى لمعدلات الخبرات، بينما قد يقف الكثيرون من الأجيال الأكبر متحصنا بما يظنه حكمته المختزنة وغير المسبوقة متيقنا من ناصية تعريف إطار المواقف بما يعتقد أنه الصحيح، ثم يسعى كثير من الآباء والأمهات لفرض ما يظنونه صالحا أو نافعا أو مؤثرا على الأبناء من فكر ورؤية ومسارات حياة.
تقتضي الحكمة تريثا وتفهما واستماعا وتأملا وقياسا لا يلتزم بما صار عرفا تقليديا: حذو الحافر، فما عاد الحافر مقياسا ولا وحدة قياس ولا شيء مما يعرفه أكثر من ستين بالمائة من بشر الكون الذين هم في عمر الطفولة والشباب.
تكمن التجربة التي هى أساس تراكم الخبرات أمام الأجيال الجديدة كل لحظة وكل يوم بل كل حين بفعل تغير وحدات قياس الزمن من شهر فيوم فساعة إلى دقيقة وثانية ثم فيمتو وما قد يلحق بها، إذ إن كم الحيوات التي تعيشها الأجيال الجديدة على شاشات الحياة المتنوعة والمتزايدة منذ بدء إدراكهم ونطقهم وتحركهم وتفاعلا أو حتى من مكانهم وعبر شاشة الموبايل جامعة الشاشات ومجسدة سكون وحركة ملايين الحيوات التي تترى وقائع حياتها عرضا ومناقشة وتجارب وكنا نظنا في بدء ظهورها أنها افتراض وخيال وأظهر تطورها أنها رفيق حياة البشر صحوا ومناما وامتدادا صار دوما ينمو ويتداخل "واقعيا" وما ذلك من الافتراض بشيء.
منحت تجارب ملايين بل مليارات البشر على تلك الشاشات المضيئة حيزا أكبر أمام الأجيال الجديدة للمعرفة والنظر والإدراك وتراكم الحكمة، خاصة وقد قرروا أو حتى اضطروا أن يتعاملوا مع كثير من تلك الوقائع على تلك الشاشات باعتبارها جزءا من حياتهم وسيرة في بعض تطور شخصياتهم بالدعم أو التبني أو التقليد أو التعليق، اختيارا وقرارا أثر في نمو العمر خبرة وتزايد الخبرات اتساعا والمدركات أفقا.
وربما يواجه كل ذلك بسلوك تقليدي قد يسعى البعض منا والأكبر لفرضه سياقا ورؤية وتبصرا في التعامل مع المواقف خوفا على من هم "صغارا" واعتقادا بأنه درء وحماية ورعاية لهم من منطلق فهم أكبر لمقدرات الكون وطريقة سلوك البشر، وتحدث من هنا دوما تلك الصدامات المروعة والتي تصل في بعض ذراها الدرامية بما قد تابعناه من حالات مفزعة وإن ظلت فردية لكنها دالة تماما حيث يقوم شاب صغير بالانتحار تاركا رسالة ما يشير فيها لأقارب لصيقين به بأنهم وراء ما حدث أو خلف ما صعد بحالته الى تلك المساحة المفجعة.
تكون الدهشة حاضرة هنا تعبيرا لا يخطئ عن كيف أن قنوات التواصل وشريان الحياة وتدفق اتصال العطاء فهما ومحبة قد انقطع بينما لا يدري من هم أكبر بذلك حتى يصحوا على مأساة لا يمكن علاجها ولا يمكن تداركها، هى تظل بعمق الفجوة التي صنعتها التكنولوجيا بين أجيال جديدة سريعة الإيقاع والإدراك وتراكم الخبرات وأيضا معها تراكم لهالات الحزن المبكر وبين بعض من أجيال أكبر اكتفت من الحياة بمخزون حكمتها المتوارث وظنت أنها ملكت كامل مساحة الفهم والتدبر، ومن ثم النصح والتوجيه المتيقن فلم تتأن ولم تتوقف لتستزيد فغابت إدراكا مستحدثا فسلوكا وسبيلا.

إعلان

إعلان

إعلان