لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

سيرة الأيام كما دوّنتها كتابات الجبرتي

د.هشام عطية عبد المقصود

سيرة الأيام كما دوّنتها كتابات الجبرتي

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 30 ديسمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يأتي الشتاء فيبعث الحنين والتأمل معا، وهما معا مسرتان تستدعيان هدأة للقراءات الممتعة، تلك الكتب التي تفوح بعطر الأوانات والأمكنة، وأجملها ما يحمل تأريخا لتفاصيل حياة الناس عبر العصور، حيث تتبدى الدهشة ألقا وهي تمضي بنا عبر الصفحات، لنعرف أن الحياة تعدو بنا وأنها تظل أبسط كثيرا من تعقيدات وأفكار مؤرقة قد تملأ أدمغتنا حينا وتسيطر علينا، ثم يتبقى لديك بعد ما قرأت حصاد انتقاءات وأضواء على ما عرفه وأدركه الناس في دورات الزمان البعيدة، وهي تؤرخ للبشر في تفاعلاتهم مع الدنيا التي هى دوما "كما نعرفها".

ونضع هنا بعضا من نفحات كتابات الفقير إلى الله – كما يقدم نفسه- الشيخ الجبرتي وهو يحكي عن أيام المحروسة وحياة المصريين في زمانه وتاريخه الذي وثقه، والذي يقارب الآن قرنين من الزمان غير منقوصين شيئا، يمتعنا الجبرتي بمأثور المقولات وطرائف الحوادث والتواريخ فاتحا لنا منظور دلالتها بهيا مشرقا، فهو حين ينصرف إلى ما منحته خبرة الحياة من مخزون الحكمة يرى الإنسان ضئيلا في متاهات دروب الكون وأنه يحتاج إلى أن يتوسط في العيش سلوكا وفكرا، مذهبا وطريقة، ويقول: "من صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم إما غمرا كثور أو شرها كخنزير أو عقور ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا حيلة ومكر كالثعلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد".

ويمضى فى نظراته لينثر الحكمة عطرا: "تمر بنا الايام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد صفو الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر"، وفي مجال استخلاص الدروس ووضع العبر من تواريخه ووفق ما عرفه من حوادث وما يسميه بنصايح الرشاد لمصالح العباد، يقول "من نظر في العواقب سلم من النوائب ومن استغنى بعقله ضل ومن اكتفى برأيه زل ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول"، ثم يستحضر حكمة الأولين أيضا بالقول: "وقالوا من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه فإن عموم البلاء منصوص واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص".

وفى مساحة ممتعة رحيبة عن أحوال الناس وسريان الأحداث وما يصنعه العوام والذين يصفهم أحيانا كثيرة مقللا منهم بالجعيدية والأوباش والحرافيش فى تأفف وتنصل ربما يأسا من سلوكياتهم غير النخبوية أو العاقلة فى ظنه كما يرى ذلك "وفي آخر جمادي الثانية ظهر رجل من أهل الفيوم يدعى بالعليمي قدم إلى القاهرة وأقام بظهر القهوة المواجهة لسبيل المؤمن فاجتمع عليه كثير من العوام وادعوا فيه الولاية وأقبلت عليه الناس من كل جهة واختلط النساء بالرجال وكان يحصل بسببه مفاسد عظيمة".

ثم يرصد تحولات حياة الناس بين دورات الندرة والوفرة، ومايفعله الزمان من تحولات تقلبات فى المجتمعات بين رخاء وشدة، وكما دورة الشمس والقمر بين نهار وليل، فيرصد بعض أوجه الشح ثم يعقبها بأوجه الرفاهية والمتعة، كأنه طبع الحياة على الناس:"سنة ست عشرة ومائة والف في تلك السنة توقف النيل عن الزيادة ضج الناس وابتهلوا بالدعاء وطلب الاستسقاء واجتمعوا على جبل الجيوشي وغيره من الأماكن المعروفة بإجابة الدعاء فاستجاب الله لهم في حادي عشر توت".

وتظهر تلك التباينات في الأحوال تبدلا من شدة إلى رخاء فى وصف شيق ممتع آخاذ كأنه صور من طيبات الحياة وهى تتدلى بعناقيدها المثقلة بالثمار، فتمنحنا نصوصه تعبيرا مسترخيا في ذات حيز الزمان، فيقص لنا عن شأن الترف حينما تتهادى أيامه تحمل سعدا إلى الناس: "فعملوا على معظم البركة أخشابا مركبة على وجه الماء يمشي عليها الناس للفرجة واجتمع أرباب الملاهي والملاعيب وغيره من سائر الأصناف والفرج والمتفرجون والبياعون من سائر الأصناف والأنواع وعلقوا القناديل والوقدات على جميع البيوت .. وفي كل بيت منهم ولائم وعزائم وضيافات وسماعات وآلات وجمعيات واستمر هذا الفرح مدة شهر كامل والبلد مفتحة والناس تغدو وتروح ليلا ونهارا للحظ والفرجة من جميع النواحي .. المدينة عامرة بالخير والناس مطمئنة والمكاسب كثيرة والأسعار رخية والقرى عامرة".

إعلان

إعلان

إعلان