لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

«حكاية الجارية».. تحذير من المستقبل!

د. ياسر ثابت

«حكاية الجارية».. تحذير من المستقبل!

د. ياسر ثابت
07:01 م الجمعة 01 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل «حكاية الجارية» للكاتبة والشاعرة الكندية مارغريت آتوود، تحديًا للقارئ لأسباب كثيرة، منها صعوبة موضوعها وارتفاع مستوى لغتها، فضلًا عن أجوائها السوداوية التي تستشرف المستقبل بطريقتها الخاصة.

مع ذلك، باتت «حكاية الجارية» واحدة من أوسع الروايات قراءة في العالم وأكثرها تعلّقًا بالحاضر وقضاياه المؤثّرة.

إن «حكاية الجارية» (دار الكرمة/روايات، 2019) بتفاصيلها وهوامشها التي تمتد على مساحة 406 صفحات، تُقدِّم رؤية مخيفة للمجتمع وقد تحوّل جذريًّا بسبب ثورة سياسيّة دينيّة متشدّدة.

لا شك أن ترجمة رواية من هذا النوع تتطلب معرفة واسعة ليس فقط باللغة وإنما بالمراجع والإحالات الدينية والتاريخية التي تزخر بها صفحات هذه الرواية؛ لذا فإن المترجم السعودي أحمد العلي يستحق إشادة خاصة، حتى وإن كانت هناك هنَّات بسيطة هنا وهناك في اللغة أو المصطلحات التي نحتها لترجمة التعبيرات الغامضة في الرواية.

إنها قصة تحول واقع افتراضي للولايات الأميركية عندما تهيمن عليها سلطة دينية نافذة باطشة للظلم الذكوري في قمع المجتمع الأنثوي وجعله تحت رحمة ذوي السلطة وتجنيده عقائديًا لتحويله إلى إماء وظيفتهن الإخصاب لمن حُرِم منه ومن خلال شخصية «أوفرِد». بتقاطعات الماضي والحاضر هناك سرد خيالي مفعم بروح السرد العالي الشائق المؤلم.

تحاول آتوود في هذه الرواية إعادة تصنيع الديستوبيا التي خلقها أورويل في «1984» من خلال رواية نسائية تأخذ أبعاد مشاعر ورؤية امرأة وتأثير الأحداث عليها من خلالها لا من خلال تصور الرجل. وهي في «حكاية الجارية» تبدو أكثر رعبًا في تفاصيلها من الحكم الدكتاتوري المطلق الذي وصفه أورويل في رصد القمع والتحكم في كل حركة ونفس يأخذه البشر في مدينته، وتحويل الناس إلى آلات بشرية يحكم بها «الأخ الكبير».

السرد مليء بالأحداث التي تعايشها الجارية من يوميات مرعبة في وصفها. كيف تتحول الممارسات الأكثر قسوة والأكثر رفضًا للمبادئ الإنسانية الأساسية كطقس عادي لكل من يحيط بدائرة السيطرة المحكمة، وبالتالي تشكل المرأة فيها جزءًا من المنظومة المتكاملة للتحكم من جهة، إذا ما كانت جزءًا من سيادة النظام القمعي.

المؤلم في واقعية الرواية عندما يقرأها المرء اليوم، أن التزمت الديني الذي يسيطر على الكثير من حكومات العالم آخذ في التزايد.

لمارغريت آتوود أسلوب مميز يمزج ما بين الأنواع الروائية كما هو ظاهر في روايتها «القاتل الأعمى». في هذه الرواية ركزت آتوود على الديستوبيا، ديستوبيا نسائية بالأخص تنهار فيها الولايات المتحدة، لينشأ مكانها مجتمع ذكوري في دولة تدعى «جلعاد»، تنقسم النساء في «جلعاد» إلى طبقات، طبقة زوجات القادة واللواتي ينعمن بشيء من الحياة والحقوق القديمة، فطبقة «المارثا» (أو المارثيات) وهن النساء المسؤولات عن تهيئة الخادمات، فطبقة الخادمات واللواتي يلعبن دور الإماء، حيث تلحق كل خادمة بالقائد وعليها الاستسلام له في حضور الزوجة وإشرافها، ويجب أن تحمل بطفل القائد وإلا ألحقت بالمستعمرات حيث الحياة هناك منذورة للعمل الشاق والموت.

«أوفرِد» هي جارية في «جمهورية جلعاد»، تخدم في منزل «الرئيس» الغامض وزوجته حادّة الطّباع. تخرج مرة واحدة يوميًّا إلى الأسواق، حيث استُبدلت الصّور بكلّ اللافتات المكتوبة، فالنساء في جلعاد تحرّم عليهن القراءة. يجب عليها أن تصلي من أجل أن يجعلها الرّئيس حاملًا، ففي زمنها انخفضت معدّلات الولادة حتى صار وجود الأطفال في البيوت أمرًا نادرًا، وهكذا باتت قيمة المرأة تكمن في قُدرتها على الحمل، أمّا فشلها فيعني إرسالها إلى المستعمرات ومواجهة الموت المحتوم.

ليس للخادمات حقوق والمجتمع الجلعادي قاسٍ ويعاقب الخارجين عليه بالقتل والصلب، هكذا تعرفنا الخادمة «أوفرد» لحظة بلحظة على واقعها الجديد وحياتها الجديدة مستعيدة ذكريات الحياة القديمة عندما كان لها زوج وطفل، وعندما كانت امرأة بكامل الحقوق قبل الانهيار السياسي والاجتماعي الذي سلبها حتى اسمها الحقيقي.

هذا الخليط المبتكر بين مزج الخيال العلمي بفانتازيا تتواءم مع روح الواقع عن طريق إسقاطات نقدية تتعلق بروح النصوص الدينية جعل من هذه الرواية تحفة فنية نادرة.

رواية تُعتبر في مصافّ رواية جورج أورويل «1984» وألدوس هكسلي «عالم جديد شجاع»؛ إذ لم تترك بصمتها وحسب في أدب الديستوبيا، بل وشكّلت تحذيرًا لمُستقبل يُحتمل وقوعه، ونشعر الآن برعشة برودته.

«حكاية الجارية» واحدة من الروايات التي ستُبقي أثرًا في نفس قارئها لوقت طويل من خلال دراما ديستوبيا فريدة لم تُكتب من قبل وأحداث سردية فاجعة تثير في النفس وجع لقسوة البشرية من خلال استخدام النصوص والتراث الديني لفرض مصالحه الغريزية.

آتوود حريصة للغاية في كلماتها. إنها تصوغا بلطف وسلاسة وبدقة شديدة، كما لو كانت تصور شيئًا ما، صورة جميلة. إنها تسير على أطراف أصابعها فوق كلماتها، مما يجعلك تعتقد أنها خائفة من أنها ستشوهها بطريقة ما. في بعض الأحيان تشعر أنها تتذوقه الكلمات، للتأكد من أن القارئ يمكن أن يستمتع بها. هذا هو الفن بكل تأكيد.

وإذا كنا نشيد بأسلوب آتوود في الكتابة، فإن هناك شيئًا جميلًا آخر هناك: تطور الحبكة.

إن تطور الحبكة في هذه الرواية ضخم وساحر. لم يكن هناك شيء يمكن أن تراه قادمًا في الواقع عندما فعلت مارغريت آتوود هذا، لذلك اختارت الفصل المثالي لوضع تطورها فيه. يظل الأمر صادمًا، لكنه رائع.

كانت بعض الأجزاء غامضة بعض الشيء بالرغم من ذلك. كان من الصعب توصيل العديد من الأجزاء بالمؤامرة ولكن في النهاية أصبح معظمها أكثر وضوحًا.

تتشابه آتوود قليلًا مع فرجينيا وولف. إنها لا تكتب قصة فقط، لكنها ترسم شيئًا. تتعامل مع كلماتها مثل الزهور بألوان مختلفة وأسماء مختلفة.

من الضرورة بمكان التنويه بالملحق في نهاية الرواية والذي نكتشف من خلاله أن قصة الخادمة ليست إلا وثيقة كشفت بعد قرون من انهيار الدولة الجلعادية، حيث تنقلنا المؤلفة إلى قاعة جامعية يتناقش فيها مجموعة من الدارسين للمجتمع الجلعادي حول قيمة الوثيقة ومدى صدقيتها؟ ومتى عاشت أوفرد هذه؟ وماذا حل بها؟

يبقى القول إن مارغريت آتوود كاتبة كندية وشاعرة وناقدة أدبية، وناشطة في المجال النسوي والاجتماعي، ولدت في عام 1939. وتُرجمت أعمال آتوود إلى 35 لغة حول العالم، وألّفت ما يزيد على 40 كتابًا بين رواية وشعر ومقال، ونالت أكثر من 55 جائزةً وتكريمًا.

وإضافة إلى روايتها الأشهر «حكاية الجارية»؛ هناك «عين القطّة»، التي نافست في نهائيات جائزة البوكر عام 1989، و«آلياس جريس»، الحائزة على جائزة «جيلر» في كندا، و«بريميو مونديلو» في إيطاليا؛ ورواية «أوريكس وكريك»، التي وصلت نهائيات البوكر عام 2003، وأيضًا «سنة الفيضان» و«مادادام».

إعلان

إعلان

إعلان