لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

نيفين ميللر.. القصة المجهولة

د. ياسر ثابت

نيفين ميللر.. القصة المجهولة

د. ياسر ثابت
07:24 م الخميس 26 مايو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«لا يُعرف رئيس وزراء لمصر باسم «ملر» ولعله مستشار الملك» (ص 47).

بهذا الهامش، علَّق المترجم والأكاديمي محمد عصفور على اسم «نيفين ملر» الذي ورد في كتاب تمثي برنن المعنون بـ«إدوارد سعيد.. أماكن الفكر»، والذي صدرت ترجمته العربية ضمن سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

الحقيقة أن الترجمة ثقافة، قبل أن تكون مجرد إتقان لغتين أو أكثر.

في الفقرة موضع التعليق، ورد نصًا:

«تفوق سعيد علي بقية أفراد العائلة الموهوبين في الموسيقى كما تفوق في كل شيء آخر، وكان يتدرب من دون انقطاع بإشراف سلسلة من المعلمين. كان أشهر هؤلاء إغناس تيغرمان، وهو يهودي بولندي يحتلُ مكانة مهمة، إلى جانب صلته بسعيد، بوصفه عازفًا أسطوريًا للموسيقى الرومانسية، وبخاصة موسيقى شوبان وبرامز، ولم يكن يسمح إلا للمتفوقين بالدراسة تحت إشراف تيغرمان في المعهد الموسيقي التابع له في رقم 5 في شارع شامبليون خلف المتحف المصري، وكانت نيفين ملر، واحدة من تلاميذه، وكانت اللغة الفرنسية هي لغة التخاطب. وكان تيغرمان يتقاضى جنيهًا عن كل درس (وهو مبلغ كبير آنذاك)، وكانت الدروس شديدة الانضباط. «لم يكن يسمح بالمناقشة». «وكان محقًا دائمًا.. وكان يُريك كيف يجب أن تعزف القطعة التي تستعد لعزفها، وإن تجرأت على المناقشة، فكل ما كان عليه فعله هو أن يُريك النوتة الموسيقية التي وضعها المؤلف، وكان ذلك كل ما هنالك» (ص 46-47).

تتداعى إلى الذهن الكثير من الأفكار بعد قراءة هذه الفقرة التي وردت في ترجمة محمد عصفور لكتاب تمثي برنن المعنون بـ«إدوارد سعيد.. أماكن الفكر»، والذي صدرت ترجمته العربية ضمن سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.

لكن عصفور الذي قدّم للمكتبة العربية ترجمات وأبحاثًا مهمة لأعمال جبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش وتوماس مور ووليام شكسبير، أخطأ في تعليقه، في حين أصاب مؤلف الكتاب تموثي برنن.

نعم، نيفين ملر (أو ميللر) هي ابنة رئيس وزراء مصري.

إنها نيفين حسين سري (1929-2021) ابنة رئيس وزراء مصر في عهد فاروق، وقد عاشت في الولايات المتحدة حتى توفيت في ولاية فلوريدا الأميركية.

في كتابها The Ivory Cell تقول نيفين ميللر:

«كنت الابنة الثالثة التي ولدت لناهد سعيد وحسين سري في القاهرة، آخر طفل بعد شقيقتيَّ إحسان وعديلة، في الثامن من يونيو عام 1929. وكانت طفولتي سعيدة للغاية، كنت جزءًا من أسرة محبة ومشغولة مليئة بالصحبة والألوان. بصفتي زملائي في اللعب، كانت لديَّ شقيقتان، تُدعيان «نيني» و«دودي»، وقد استمتعنا بجيش حميد من الخدم والمربيات. بصراحة، أرى الآن أنني كنت شقية مدللة بعض الشيء.

«كنا نعيش في أحد أجمل مناطق القاهرة، في حي الزمالك، وهو مكان جميل شُيّد لكبار الشخصيات البريطانية.

«كان والدي وأمي، مثل الأبناء حسني التربية في عصرهم، يجمعهم آباؤهم في زواج مرتب. لم يلتق الزوجان الشابان حتى يوم زفافهما، وكان هناك الكثير من القلق لكليهما. ولأن والدي قيل له إن زوجته المستقبلية تشبه والدها رئيس الوزراء، فقد شعر بالارتياح لرؤية أن عروسه الجميلة لم يكن لها شارب. هي بدورها كانت مفتونة به. كان شابًا جميل المظهر ولامعًا من عائلة طيبة في مصر. لقد بدا صارمًا ومتحفظًا ولكن تحت جلده كان يتمتع بروح الدعابة وقلبًا كبيرًا حاول إخفاءه وراء أسلوبه المفاجئ وخطابه المباشر.

«أمضت أمي وأبي ليلة زفافهما في منزل العائلة الخالي، وكالعادة، اتصل أجدادي بالهاتف في الصباح ليروا كيف انقضت الليلة. أجابت الخادمة وأجابت ببراعة أن كل شيء على ما يرام: طائرا الحب كانا يغنيان في الطابق العلوي!

«على الرغم من أن هذا المفهوم يبدو غير بدهي في عالم اليوم، فإن الزيجات المدبرة كانت في كثير من الأحيان سعيدة بشكل رائع، كما كان هذا. كانت الزيجات المدبرة لأخواتي، في سن 16 و18 عامًا، طويلة الأمد وناجحة أيضًا. زواجي الأول، مباراة حُب في سن الـ18، لم يكن جيدًا»(ص 1-2).

نتوقف هنا لنوضح أن نيفين ملر (ميللر) هي ابنة أخت الفنان التشكيلي محمود سعيد، الذي رسم لها لوحة بورتريه شهيرة. كان زوج نيفين الأول إسماعيل مظلوم، ابن عم محمود سعيد، وهو نجل حسن مظلوم، شقيق والدة سعيد، عديلة مظلوم. ويبدو أن نيفين أنجبت من زواجها الأول كلًا من نعمت ونهال وحسن. تزوجت نيفين لاحقًا من وليام ميللر، وعلى الرغم من انتقالها إلى الولايات المتحدة، فإنها ظلت مرتبطة جدًا بعمها محمود وحساسة تجاه أعماله، حيث تقول في كتابها المذكور آنفًا:

«كانت عائلة والدتي تضم عددًا من الشخصيات المهمة. كان شقيق والدتي، خالي الرائع محمود سعيد، فنانًا مشهورًا لعب دورًا محوريًا في تطوير الفن الحديث في مصر. لقد مات محمود منذ خمسين عامًا، ولكن مؤخرًا بيعت إحدى لوحاته بأكثر من مليوني دولار في مزاد أقيم في دبي» (ص 4).

في كتاب آخر عن محمود سعيد، تقول:

«لطالما كان عمي محمود كائنًا استثنائيًا في عيني. أتذكر جيدًا عندما سافر إلى باريس لقضاء عطلة الخمسينيات، عندما كنت أعيش هناك. سألته بعد ذلك ماذا يريد أن يفعل فأجاب على الفور: «أود أن أرى كاتدرائية شارتر مرة أخرى». ومن ثم في اليوم التالي، أخذنا السيارة وذهبنا إلى شارتر، حيث قضينا يومًا رائعًا معًا.

عندما كنا في الكاتدرائية، شرح لي بالتفصيل كل نافذة من الزجاج الملون، وتحدث عن ألوانها، والشمس التي أشرقت من خلالها وهيكل الكاتدرائية. لقد تأثرت بكل ما يعرفه وفوجئت إلى حد ما، لكنني استمعت بعناية إلى ما قاله. بعد زيارتنا، تناولنا الغداء في حانة صغيرة بجوار الكاتدرائية وأدركت مدى معرفته. لقد ظل ذلك اليوم في ذاكرتي حيث اكتشفت عمي حقًا. أتذكر أنني سألته لماذا لم يبع أبدًا أيًا من لوحاته فأجاب تلقائيًا دون أي تردد، «لأنني لا أستطيع بيع لوحة لشخص قد أرسم صورته غدًا».

بالنسبة لي، كان عمي كائنًا رائعًا، رجلًا ساحرًا مليئًا باللطف والطيبة ومليئًا بشكل خاص بالتواضع على الرغم من موهبته العظيمة. لقد أحب مصر من كل قلبه، وعكست لوحاته بشكل قاطع جميع جوانب وطنه.

(نيفين ميللر، محمود سعيد: الرسام والرجل، 2015، مترجم عن الفرنسية).

في مذكراتها المنشورة، تقول نيفين ميللر:

من ناحية أخرى، كانت عائلة والدي من أصل مصري، كانت ثرية للغاية وذات إنجازات على الرغم من كونها كذلك. كان جدي لأبي، إسماعيل سري باشا، قد عمل مهندسًا في فرنسا، وكان مسؤولاً عن الكثير من أعمال البناء في كارمارج في جنوب فرنسا، ومنحته الحكومة الفرنسية منزلاً جميلًا هناك تقديرًا لمواهبه. أصبح فيما بعد وزيرًا للأشغال العامة في مصر. كان أبي، مثل والده، تلقى تعليمه في "المدرسة المركزية لباريس" المرموقة، وتخرج أولًا في فصله. عمل أيضًا مهندسًا في فرنسا وتحدث اللغة بإتقان. في وقت لاحق من حياته كان يقود الحكومة المصرية كرئيس للوزراء ونال رتبة باشا، وخيبة الأمل الوحيدة التي شعرت بها والدتي عندما رأته... أنه كان أصلعًا بالفعل... وكانت تحلم دائمًا بأن يكون لها زوج لديه الكثير من الشعر بحيث يمكنها أن تمرر يديها من خلاله وتداعبه باعتزاز - في الواقع كانت تلك تفاصيل ثانوية، وقد تغلبت بسرعة على خيبة أملها» (ص 5).

حملت نيفين حسين سري، إذن، اسمها الجديد «نيفين ميللر» إثر زواجها من وليام ميللر (1923-2010)، ما يعني أن تموثي برنن أصاب في وصفها في كتابه بأنها ابنة رئيس وزراء في عهد الملك فاروق.

إلا أن هذا ليس كل ما أثارته في الذهن الفقرة التي تصدرّت هذا المقال، وهو ما سنعود إليه في مقال آخر.

إعلان

إعلان

إعلان