لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الأخبار و"تعكير المزاج"

خالد عز العرب

الأخبار و"تعكير المزاج"

خالد عز العرب

أستاذ مساعد ممارس بقسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأميركية

06:11 م الأربعاء 22 يونيو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تقرير معهد رويترز لدراسات الصحافة الذي صدر الأسبوع الماضي (يمكن الاطلاع على التقرير على هذا الرابط ) يرصد عددا من الظواهر المهمة في مجال الإعلام اليوم بناء على استطلاع رأي شمل 93 ألف مشارك من 46 دولة... لكن ربما كان العنوان الأبرز الذي خرج عنه – وهو العنوان الذي تناقلته الكثير من وسائل الإعلام – هو الزيادة الكبيرة في عزوف الناس عن الأخبار.

هذه الظاهرة ليست جديدة وقد رصدتها عدة دراسات من قبل، ولكنها تزداد بشكل مضطرد كما يتضح من التقرير الجديد. في نسخة العام 2017 من نفس التقرير لمعهد رويترز كانت نسبة الأشخاص الذين قالوا إنهم يتجنبون الأخبار أحيانا أو عادة 29% ممن جرى استطلاع رأيهم... اليوم وبعد خمس سنوات فقط بلغت النسبة 38%... بل إن النسبة تضاعفت في بعض الدول مثل البرازيل (كانت 27% في 2017 ووصلت إلى 54% الآن)، وبريطانيا (كانت 24% ووصلت 46%).

أحد أهم الأسباب التي يسوقها المشاركون في استطلاع الرأي لتفسير عزوفهم عن الأخبار هي أنها "تأثر سلبا على مزاجهم"... هذا الأمر يستحق أن نقف عنده بعض الشيء... صحيح أننا كثيرا ما نسمع مثل هذا التبرير في حياتنا اليومية – وربما نقوله أيضا – ولكن هل يصلح كتفسير دقيق لتنامي ظاهرة العزوف؟

إن حادث تحطم طائرة كان طوال الوقت وسيظل دائما خبرا يتصدر العناوين، في حين أن وصول مئات الطائرات سالمة في موعدها لم يكن في أي وقت ولن يكون أبدا خبرا يستدعي التغطية... هذه هي طبيعة الأخبار، وهي طبيعة ثابتة لم تتغير وبالتالي لا تصلح لتفسير الزيادة في عزوف الناس عن الأخبار خلال السنوات الأخيرة.

قد يقول البعض إن طبيعة الأحداث حول العالم صارت مقبضة أكثر مما كانت عليه، وبالتالي صارت الأخبار أكثر سلبية... فوباء كوفيد على سبيل المثال مثل أمرا استثنائيا سواء من حيث قتامته أو من حيث كونه أصاب كل مناحي الحياة حول العالم... هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضا أن ظاهرة العزوف تزداد حتى من قبل كوفيد (في نسخة عام 2019 من تقرير معهد رويترز شهدت كل الدول زيادة في العزوف عن الأخبار باستثناء استراليا وفنلندا). وبعيدا عن كوفيد، فإنه من الصعب أن نطلق أحكاما موضوعية حول ما إذا كانت أحداث العالم اليوم بالفعل أكثر بؤسا مما كانت عليه قبل سنوات، وينبغي أن نكون واعين لاحتمال الوقوع في فخ الترحم على ماض جميل متوهم.

لكن إذا لم تكن "طبيعة الأخبار" ولا "طبيعة الأحداث" تصلحان لتفسير الشعور المتزايد لدى الناس بأن الأخبار "تأثر سلبا على مزاجهم"، فما عساه أن يكون السبب؟

في اعتقادي أن هناك عوامل أخرى شهدت بالفعل تغييرا خلال السنوات الأخيرة وقد تكون هي الأصلح لتفسير الأمر.

العامل الأول هو الكم الهائل والمتزايد من القنوات والمواقع والمشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تمثل في مجملها معروضا هائلا من المعلومات والأخبار، تسبب حالة من الإرهاق لدى المتلقي الذي قد يقف شاعرا بالعجز أمامها فيكون الحل لديه هو الهروب منها جميعا.

أضف إلى ذلك أن هناك تراجعا في "جودة" القصص الخبرية المقدمة من وسائل إعلام عديدة بسبب الضغط الواقع عليها من مواقع التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على جل اهتمام الجمهور.

ويمكننا رصد هذا التراجع في أوجه عدة... ففي سعيها لزيادة عدد الزيارات الشهرية لمواقعها صارت مؤسسات إعلامية عديدة ترهن أجندتها الخبرية بالتريند السائد في ذلك اليوم على مواقع التواصل، كما صارت تعطي الأولوية لسرعة وحجم الانتاج لا نوعيته (انظر مثلا ما تتناقله مواقع يفترض أنها "إخبارية" من محتوى على غرار "الفنانة فلانة عبر إنستجرام تبارك للفنان فلان على زواجه")، ولتغطيات خبرية سريعة وخفيفة لا تمنح المتلقي ما يكفي من خلفيات لفهم أهمية الخبر أو شرحا لتداعياته أو تحليلا للمواقف المختلفة، وكذلك الخلط المتزايد بين صحافة الخبر وصحافة الرأي، وافتعال أو تضخيم الصراع بين قطبين لجذب الجمهور... كل هذا يترك المتلقي محاصرا بكم هائل من المحتوى ذي القيمة الإخبارية المتدنية، فلا غرابة في أن يشعر بعد ذلك بأن الأخبار تأثر سلبا على مزاجه.

كما أن هناك عاملاً آخر قد يفسر ولو جزئيا تلك الظاهرة... ذلك أن مواقع التواصل خلقت لكل منا عالمه الخاص الذي لا يتطابق تماما مع عوالم الآخرين، وقلصت بالتالي مساحة التجربة والمعرفة المشتركة التي تجمعنا... وإذا كان الحال كذلك فمن المنطقي أن يصبح كل منا أقل اهتماما بمتابعة أخبار العوالم الأخرى، وإذا كانت هذه الأخبار تحمل قدرا من القتامة، فلا ريب أن يقرر كثيرون العزوف عنها.

فهل من وسيلة أمام الصحافة للحد من ظاهرة تعكير مزاج الجمهور؟

لابد من التسليم أولا بأن بعض هذه العوامل يقع خارج سيطرة وسائل الإعلام ولا تملك أن تفعل الكثير بشأنه، ومن ذلك مثلا ظاهرة فيض المعلومات التي يتعرض لها الشخص في عالم اليوم فتسبب إرهاقا ذهنيا وقد تؤدي إلى العزوف... هذه الظاهرة هي نتاج التطور التكنولوجي في مجالي الاتصالات والبيانات في هذا القرن ولا يبدو أننا نملك الفكاك منها.

لكن هناك أدوات أخرى قد يكون بمقدور وسائل الإعلام أن تستخدمها، ومن تلك الأدوات لونان من الصحافة اكتسبا بعض الزخم خلال السنوات الماضية. الأول هو ما يعرف بـ"الصحافة التفسيرية"، والمقصود به ذلك اللون من الصحافة الذي يقدم للجمهور جرعة أكبر من الشرح لسياق الخبر وخلفياته وتداعياته بما يسمح بفهم أعمق للحدث ودرجة أكبر من التمكين للمتلقي، وعلى سبيل المثال فإن واحدا من أنجح البرامج في بي بي سي مؤخرا سواء على الشاشة أو منصات التواصل الاجتماعي هو برنامج Outside Source الذي ينتمي لهذا النوع من الصحافة.

أما اللون الثاني فهو ما يصطلح على تسميته بـ"صحافة الحلول" وهو ذلك النوع من التغطيات الصحفية التي لا تقف عند حدود عرض المشكلة فقط وإنما تجتهد في استكشاف الحلول الممكنة، وهي بذلك تعمل على أن تجنب جمهورها الإحساس بالعجز وأن تمنحه هدفا يمكن التطلع إليه، وقد أظهرت بعض الدراسات (يمكن الاطلاع على هذا الرابط ) أن هذا اللون من الصحافة يلقى قبولا وتفاعلا أكبر من الجمهور.

بطبيعة الحال لا تمثل الصحافة التفسيرية أو صحافة الحلول عصي سحرية، كما أنهما لا تصلحان لتغطية كل أنواع القصص الخبرية، ولكن من الممكن أن يسهم التوسع في استخدامهما بشكل أكبر في الحد من نزيف العزوف الجماهيري.

وتظل الأداة الأهم بيد الصحفيين ووسائل الإعلام هي إدراك أنه لا جدوى من منافسة وسائل التواصل الاجتماعي على أرضها، وأن الأصلح للحفاظ على الجمهور هو أن تقدم له خدمة صحفية تحمل قيمة مضافة، بدلا من إنتاج سيل من القصص قليلة الجودة والجدوى.

إعلان

إعلان

إعلان