لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عشاء مع داروين

د. ياسر ثابت

عشاء مع داروين

د. ياسر ثابت
07:00 م الأحد 29 أكتوبر 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


«ماذا سنأكل غدًا؟»
هذا هو السؤال الذي يتردد يوميًا على ألسنة المسؤولين عن إعداد الطعام على الطاولات والموائد، في البيوت والمطاعم وغيرها.
يحاول كتاب جوناثان سيلفرتاون «عشاء مع داروين: الطعام والشراب والتطور» (دار سطور، بغداد، 2021) ترجمة سامر حميد (صدر باللغة الإنجليزية عن جامعة شيكاغو 2017)، الإجابة عن تساؤلات المستقبل بالنسبة للغذاء، في الوقت الذي يلقي فيه مزيدًا من الضوء على تطور الإنسان بموازاة تاريخ الطعام.
وإذا كان سيلفرتاون قد بيّن في كتابه أنه سيهيمن على مستقبل تطور الطعام تحديان مهمان هما: النمو السكاني وتغيُّر المناخ العالمي، فإنه يركز على أن تغيُّر المناخ سوف يجعل إطعام البشر بعددهم العشرة مليارات نسمة أكثر صعوبة. إن درجات الحراة المتزايدة، وتغيُّر أنماط هطول الأمطار، والجفاف المتزايد، فضلًا عن ارتفاع مستوى سطح البحر، هي كلها عوامل تهدد الأمن الغذائي ما لم تتكيّف مع أنظمة إنتاج الطعام ومحاصيلنا (ص 259).
علاوة على ذلك، تؤدي الزراعة كما تُمارَس حاليًا إلى تفاقم تغيُّر المناخ؛ لأنها مسؤولة عن قدر كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري؛ لذا يجب ألا نطعم المزيد من الناس في المستقبل فحسب، بل يجب أن نفعل ذلك أيضًا على نحو مستدام (ص 259).
ويحذر المؤلف من أن تقنيات الهندسة الوراثية ليست غير طبيعية أو غير مختبرة، ولكن لا ينبغي لنا أن نتوقع منها حلًا لكل مشكلة، مشيرًا إلى أن الجِدة تنطوي باستمرار على مخاطر. ومع ذلك، فإن المستجدات المرتبطة بأكبر التهديدات للصحة والبيئة ليست المحاصيل المعدلة وراثيًا أو الأنواع المدجنة، ولكن الأنواع البريَّة مثل النمل الأرجنتيني، أو بلح البحر الوحشي، أو كَرمة كودزو التي تسبب أضرارًا لا توصف عند إدخالها في خارج نطاقاتها الطبيعية. لا يوجد أي شيء نقوم به، أو نفشل في القيام به، يخلو من مخاطر، لذلك يجب الحُكم على جميع المخاطر بتكافؤ. في وقتنا الحاضر، يبالغ للغاية بمخاطر تقنيات الهندسة الوراثية، في حين أن الفوائد المحتملة لإنتاج الطعام المستدام لا تحظى بتقدير مماثل (ص 270-272).
بأسلوب ممتع ومعلومات غزيرة وجديدة، يحاول المؤلف في هذا الكتاب رواية سيرة بعض الأصناف والأطعمة وتطورها، التي عادة ما توجد على موائدنا وفي مطابخنا يوميًا. وهو يسعى ببساطة إلى تقديم إضافات مهمة في حقل ما يسمى «الأنثروبولوجيا التطورية للطعام» مفادها أنه كما مرّ المجتمع البشري بمراحل مختلفة، وفق رؤية تشارلز داروين، فإنّ الطعام أيضًا كان يعيش تطوّرات موازية، وأن الطعام الذي نتناوله اليوم ليس وليد هذا العصر، بل هو وليد انتقاء طويل الأمد، وتجارب على مدار آلاف الأعوام. والطريف ربما في ما تقدمه هذه الرؤية، أنها تزودنا بتفاصيل جديدة وممتعة عن سير بعض الأطعمة وكيف وصلت إلينا.
وفكرة المؤلف من الكتاب الذي يقع في 328 صفحة من القطع المتوسط، تنطلق من مقولة كاتب السيرة الذاتية واليوميات الإسكتلندي جيمس بوزويل: «إن تعريفي للإنسان، هو: حيوان طبّاخ. إن لباقي الوحوش ذارة، ومَلَكة حُكم، وكلُّ المَلَكات والانفعالات التي تحوزها عقولنا بدرجة ما، ولكن لا يوجد أيٌّ منها طبَّاخًا» (ص 25). كتب بوزويل هذا قبل داروين؛ لذا لم يقدِّم حُجة تطورية، لكن فكرة محورية الطبخ لجنسنا كانت نتيجة صائبة أحسها آخرون في أحشائهم.
لقد عرف الإنسان (الهومو) العاقل الطبخ منذ مليون عام مضى، ما أحدث تحولًا في جسده ورؤيته للحياة، مع ذلك، فإنّ التعرف على الطبخ لم يأت دفعة واحدة، وإنما هو وليد موائدنا تجارب وتواريخ طويلة. ستبدأ أولى معرفة الإنسان بالطعام مع النباتات، ولذلك تبدو أسنان الإنسان الأولى كبيرة، وكذلك معدته، لتتمكن من هضم ما تتناوله من أعشاب غير مطبوخة (ص 39).
ومع ظهور النار، ستتغيّر الصورة تمامًا، وسنعثر على أحشاء أخرى للإنسان العاقل وبطن صغير، ناجم عن تناوله الطعام المطبوخ، الذي لم يعد يحتاج إلى أمعاء واسعة كما في السابق للهضم. يجادل ريتشارد رانغهام، عالم الرئيسيات في جامعة هارفارد، في كتابه «قدحة النار: كيف جعلنا الطبخ بشرًا» بأن الطبخ ساهم في تطور النوع البشري؛ لأنه منحنا الطاقة اللازمة لتوظيف دماغ أكبر. لقد كانت الزيادة المطردة في حجم الدماغ التي حدثت خلال المليوني عام الماضية، هي الاتجاه الأكثر أهمية في التطور البشري. أصبحت أدمغتنا الآن أكبر بثلاث مرات من عقول أي من الرئيسيات الأخرى، رغم أن الحجم ليس كل شيء.
أحشاؤنا متعطشة للطاقة مثل الدماغ أيضًا، ولكن في حين أن أدمغتنا أكبر بكثير من المعتاد بالنسبة إلى الرئيسيات من حجمنا، فإن أحشاءنا هي أصغر بكثير. وفرَّ التطور من التقلص لأحشائنا، الطاقة الكافية للتباهي بأدمغتنا الأكبر (ص 41).
بعد اكتشافه للطهي، سنكون لاحقًا مع تطور آخر على صعيد الطعام من خلال ظهور الخبز، الذي مثّل شيئًا جديدًا في تاريخ الأكل. وقام المزارعون الأوائل في الهلال الخصيب أيضًا بتدجين قمح الحجل ذي الحبة الواحدة، الشعير، العدس، البازلاء، الحمص، الكتان. لقد أدت ضرورة رعاية الحقول إلى جعل المستوطنات دائمة، وسمح الفائض من الطعام الذي تنتجه الزراعة، بنمو السكان وإطلاق العمالة في مهن لا علاقة لها بالضرورات الأساسية لجمع الطعام، ولذلك يرى المؤلف أنّ خبزنا اليومي، البدهي لمعظمنا، له تاريخ خفي يمتد إلى آلاف الأعوام، وهو الذي قام بتغييرنا بكل طريقة يمكن تخيلها. لقد كان الأساس لثورة العصر الحجري الحديث عندما تعلَّمنا توجيه تطور النباتات والحيوانات لتحقيق أهدافنا الخاصة.
وبعد تعرُّف الإنسان على الطهي والخبز، ستظهر قصة أخرى، وفق ما تراه الرؤية التطورية، تتمثل في عامل الرائحة.
ولا يحلو الطعام دون وجبة حلو، وهنا سنتعرف على الموسيقي موزارت وقصة غرامه مع كعك مدينة فيينا، التي أصبحت عاصمة الحلويات في القرن الثامن عشر. فهي موطن شترودل التفاح (معجنات لذيذة تصنع من حشوة التفاح المحلاة بنكهة القرفة). كما خاضت مؤسستان في هذه المدينة معركة قانونية استمرت 7 أعوام للمطالبة بأحقية صنع كعكة الشوكولاتة الأصلية (171).
الكتاب الذي اهتم بالمراجع والمصادر والأبحاث الجديدة، يؤكد للقارئ أن لكل شيء نأكله تاريخًا تطوريًا، وكل رفٍ في الأسواق هو مليء بمنتجات التطور، مع أن ملصق تاريخ انتهاء الصلاحية على الدواجن لن يخفي عنا حقيقة أنها تعود إلى العصر الجوراسي، ولن تخوننا الذاكرة في ممر المنتجات الطبيعية عن حقيقة أن للذُرة تاريخًا يصل إلى 6000 عام من الانتقاء الاصطناعي في العصر ما قبل الكولومبي (ص 14).
كل وصفة، وكل قائمة طعام، هي تاريخ، ومستقبل أيضًا.

إعلان

إعلان

إعلان