لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

قطار أول المساء .. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

قطار أول المساء .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 14 يوليو 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

القطار المتوقف على المحطة ذات الرصيفين المتوازيين يشبه مدينته الصغيرة، قديم تختلط ألوان عرباته كأنها تم تجميعها عبر أزمنة مختلفة، حتى درجة اللون الأصلى تأخذ حصتها من الخفوت، تغطيها ظلال طبقات التراب الذى يختلط بها، يظهر وجه ناظر المحطة من وراء شباك حديدى صغير، يتناول منه التذكرة الورقية المستطيلة السميكة تغطيها الحروف والأرقام بينما الشهر مايو وتاريخ العام1983 يظهران بوضوح أسفلها، يمضى متمهلا فى اتجاه رصيف القطار، تحمل المرأة طفلها الصغير وتمسك بيد ولد أكبر وهى تعبر مسرعة فى ذات الإتجاه، يسير عدد قليل من الأفراد بزيهم الريفى، يحمل الناس أشياء كثيرة يبدو بعضها ثقيل، حقائب قماشية وأكياسا ورقية تبدو من قمة بعضها ثمار الفاكهة التى دأبت القرى المحيطة بالقرية على زراعتها، يكون قد انتقي صحيفتين يوميتين، ثم تأكد من وجود ذلك الكتاب الذى اختار أن يرافقه خلال هذا السفر، يفضل كتابا لا يحتاج تمعنا وسيكون جميلا لو تضمن شيئا مسليا، مثل تلك الكتب الشائع تواجدها عند أكشاك محطات القطارات، يتخير كتابا يحمل عنوان " الحياة فى السفن العابرة للمحيطات "، يتعجب من الإسم ويتوقع أشيائ مدهشة، يراه مناسبا تماما فى رحلة هذا القطار الذى يقطع مسافة كبيرة وهو يمضى متمهلا، وأيضا سيبدو أنخ مستغرق فيه حين يحاول البعض إطالة الحديث معه، كما سيمنحه حرية أن يغادر سطوره حين يحب النظر لشئ ما، عبر نافذة القطار ثم يعود إليه ليستكمل صفحات أخرى فى تتابع لايزعج.

هذا القطار يمر عبر كل القرى والمدن الصغيرة بمحاذاة فرع النيل، يبدأ محطاته من مدينة كبيرة فى المحافظة ثم تتوالى القرى مرورا بمدن صغيرة ، بالقطار درجتان ثانية وثالثة لايختلفان فى شئ سوى أن التواجد فى عربات الدرجة الثانية سيمنح إمكانية اختيار مقعد بعيدا عن مدخل عربة القطار والباب الملاصق لها وإلى جوار النافذة تماما، فى الإتجاه الذى يمضى مع واجهة القطار.

شكل القرى والمدن الصغيرة التى تتابع من خلال زجاج النافذة يبدو مألوفا، هادئة تمضى وتسلم إلى أخرى تشبهها وجميعها تحمل رائحة الليل مع قدوم الغروب، بعض اللمبات الخافتة الضوء تنبعث من أعمدة إنارة على طرق صغيرة تتقاطع مع حركة القطار وتفضي إلى داخل القرى المتناثرة فتمنحها وجودا ملحوظا، تتوالى البيوت التى تبدو " قوالب" الطوب الأحمر التى شيد بعضها به متراصة فى صفوف أفقية يفصلها اللاصق الإسمنتى الرمادى، طابق أو اثنين تحمل شكل الصبر وعدم الإهتمام بالعالم خارجها.

تمنح وجوه الركاب شيئا مألوفا يبدو متكررا، خيطا ممتدا غير ملحوظ سوى بمزيد من تأمل تقاطع خيوط من أثر الجهد والصبر، ثم لاشئ كبير يميز بينها سوى اختلاف العمر، يستعد البعض عند الباب فى انتظار توقف القطار فى المحطة القادمة، يهدئ السائق من سرعته ويبدأ ظهور الأفراد الواقفين على رصيف المحطة حين يتجاوز القطار أولهم بطيئا قبل أن يقف تماما، لايتغير شئ، يصعد آخرون يشبهونهم، بينما يستيقظ واحد هنا أو هناك ينظر الى إسم المحطة أو يسأل جاره عن اسمها ثم يواصل نوما متقطعا، يعبر فى منتصف العربة باعة الحلوى، يقول الجالسون لم يكن القطار المسائى هذا شبه خالى على النحو الذى نراه الآن، كان مزدحما قبل أن تتشكل طرق تصل بشكل أسرع وأقل تكلفة إلى داخل المدن والقرى بينما يمر بها القطار من خارجها.

صوت حركة القطار لا يتغير منذ أن تلتقطه الأذن فى أول رحلة سفر يدرك فيها الإنسان الطبيعة الخاصة للأصوات، صوتا عريضا متثاقلا متكررا، وخيط دخان يمضى صاعدا فى الفضاء معه كأنه يعلن للبلدات القادمة عن وصوله.

لازالت هناك سبع محطات أخرى تالية حتى ينتهى السفر من تلك البلدة الصغيرة التى تحمل إسما ينتمى الى عصر تاريخى قديم أصابه تعديل لغوى بسيط لكنه ظل محتفظا بأصل الحروف، تعيش القرى على مر القطار تحمل تاريخها الطويل الذى يظهر من اسمائها على لافتات محطات القطار، تتضاءل مظلة الغروب مع حركة القطار، وتختفى النقاط الرمادية من الغروب بينما تفرد مظلة المساء طياتها لتفسح مجالا، وتختفى أشكال الحقول الممتدة التى الآن توا تنعس فى ليلها الداكن، وفى السماء تتكاثر النجوم وتبدو كنقاط ضوء بعيدة، وتتحول المسافات من شباك القطار الى امتدادات بلا شكل محدد، مع كل محطة يغادرها القطار.

حين يقترب القطار من المدينة الريفية الكبيرة، سيعرف ذلك من أضوائها التى تنطلق من المحلات المتراصة، ومن المكتبة الصغيرة على ناصية آخر مزلقان للقطار قبل أن يتوقف تماما، حركة الناس تزداد زحاما، تفاجئه رائحة الطعمية تنبعث فى الجو شهية تماما، يعرف ذلك المحل الصغير الذى يقدم الطعمية فى أرغفة الفينو الطويلة الرفيعة وعليها قطع الطامطم الصغيرة منثور فوقها كثير من الشطة الحارقة، سينظر فى ساعته ويتحجج فى داخله بأن الوقت قد تأخر، وحين يكون فى مواجهة المحل الصغير تماما، سيأخذ رغيفين ويجلس على كرسى فى ذلك المقهى المجاور منتظرا كوب شاى، تيظر إلى الهاتف ثم يبطل صوته ويضعه فى الجيب الخارجى للحقيبة الصغيرة، يأكل بينما يصافح وجهه هواء الشارع متأملا ذات القطار الذى هبط منه يقف فى رصيفه هناك، مستعدا ليأخذ طريق إيابه الذى اعتاده عبر السنين.

إعلان

إعلان

إعلان