لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

المُثقف المُومس

د. أحمد عبد العال عمر

المُثقف المُومس

د. أحمد عبدالعال عمر
07:58 م الأحد 30 يوليه 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في منتصف تسعينيات القرن الماضي كُنت طالباً جامعياً شغوفًا بالفلسفة والأدب والصحافة، وفي ذلك التوقيت كانت جريدة العربي الناصري تحت رئاسة تحرير الأستاذ عبد الله السناوي، تضم نخبة من كُتاب مقالات الرأي الذين قدموا زادًا فكريًا ومعرفيًا وسياسيًا في منتهى الثراء بالنسبة لشاب في طور التكوين، شاب عاشق لبلاده وتاريخها ورموزها، ومشغول بهموم حاضرها، واستشراف ملامح مستقبلها.

وعلى صفحات جريدة العربي الناصري كتب الراحل الدكتور حسين أحمد أمين في نهاية تسعينيات القرن الماضي مقالًا جريئًا وصادمًا تحت عنوان "المُثقف المُومس"، ما زلت أحتفظ به إلى اليوم بين أوراقي الخاصة؛ لأنه كان كاشفًا لحقائق مخزية كثيرة، وملهمًا لأفكار وخيارات مهنية ووطنية في غاية الأهمية.

تحدث الدكتور حسين أحمد أمين في هذا المقال عن ظاهرة تحولات المثقفين والسياسيين، ومَن يُطلق عليهم في مصر اسم "النخبة"، وشرح كيف ولماذا يخلعون باستمرار قناعاتهم ومبادئهم، بهدف نيل رضا السلطة وأصحاب الحظوة والنفوذ والثروة القدماء والجدد، وضمان دور ووظيفة في كل العصور.

وبالتالي تحقيق أكبر قدر من المكتسبات الشخصية على حساب احترامهم تاريخهم وأنفسهم واحترام الناس لهم، وعلى حساب المسؤولية المهنية الوطنية، وعلى حساب قداسة وشرف الكلمة والوظيفة العامة، ولهذا شبه هؤلاء بالمومس التي تخلع ملابسها ببساطة واستمرار لتؤدي عملها وتبيع كرامتها وجسدها.

وقد أشار الراحل الدكتور حسين أحمد أمين في هذا المقال إلى نقطة بالغة الأهمية في الدلالة على عصر الرئيس الراحل محمد حسني مبارك؛ حين ذكر أن نظام الرئيس مبارك ونظامه قد نجحا نجاحًا منقطع النظير في شغل كل إنسان مصري مهما كان علمه أو مهنته أو منصبه بهمومه ومصالحة الشخصية والأسرية، وإبعاده عن الاهتمام بهموم ومشكلات الوطن والشأن العام، بحيث أصبح لسان حال ومقال الجميع: أنا ومن بعدي الطوفان.

كما نجح أيضاً في تشويه الشخصية المصرية، وإضعاف وتقزيم دور مصر ونخبتها وقوتها الناعمة، وهدم القدوة والمثل الأعلى.

وبعد مرور سنوات طويلة على كتابة هذا المقال، يُمكن القول اليوم إن تلك السياسة التي رعتها قوى في الخارج والداخل، وجماعة المصالح المحيطة بالرئيس حسني مبارك كانت سياسة موجهة ومدرُوسة، وتهدف إلى تقزيم القيادات والنخب في مصر، بل تقزيم مصر الدولة والدور والمكانة، لخدمة "مشروع التوريث" وحتى تصبح مصر ونخبتها دون قامة الوريث الحالم بملك أبيه.

وقد دفع الرئيس مبارك ونظامه ثمن تلك السياسة عندما تخلى أغلب رجاله وسياسي ومثقفي نظامه عن دعمه والدفاع عنه بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، وكانوا أول القافزين من سفينته الغارقة، بالضبط كما تفعل فئران السفن التي توشك على الغرق بعد قيامهم بتخريبها.

وأظن أننا منذ يناير ٢٠١١ نجني الحصاد المر لتلك السياسة التي رفعت من قامة المثقف والسياسي الفهلوي رجل كل العصور، وأفقرت – إلى حد كبير - حياتنا العامة في هذه المرحلة الحاسمة التي تمر بها المنطقة والعالم من نموذج المثقف ورجل الدولة الوطني المخلص الواعي، المتفاني في عمله، الشجاع في تأييد مواقف وخيارات الدولة عن قناعة تامة، والدفاع عنها للنهاية بصدق بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة.

المثقف ورجل الدولة الموهوب في التفكير خارج الصندوق، وفق رؤية مستقبلية علمية وعملية، والذي يتعامل في النهاية مع عمله والوظيفة العامة بوصفهما مهمة وطنية ومسؤولية اجتماعية، وليست فقط مغنمًا شخصياً وعائليًا.

ولهذا فإن المهمة الوطنية والتاريخية اليوم - التي لا تقل في أهميتها عن مهمة إعادة بناء الدولة المصرية وإصلاح مؤسساتها واقتصادها، وحماية ثوابت أمنها القومي، ومواجهة التهديدات والمخاطر التي تستهدفها - هي مهمة إصلاح التشوه والعطب الذي أصاب النخبة المصرية، والتخلص ممن هم "فئران سفن" بطبيعتهم وتكوينهم، وإعادة بناء النخبة وقوة مصر الناعمة على أسس معرفية ووطنية جديدة تتناسب مع أحلام الوطن وشعبه وطموح قيادته، وتتناسب مع متغيرات وتحديات الواقع والعالم الذي نعيش فيه.

إعلان

إعلان

إعلان